صعدة في موسم الجنى

 

عبدالجبار الحاج

منذ اليوم الأول لوصولي الى صعدة كانت موضوعات الحروب والعدوان والزراعة موضوعات مختلفة في قضية واحدة أردت أن تكون مادة اقف فيها على مشكلات تتعلق بالإنتاج عموما وبتوجهات من نوع الاكتفاء وما هو دور الدولة .
اخترت أن تكون صعدة مجالا لنشاط مبعثه اجازة تمنحني استمتاعا بالمكان على طبيعته الجميلة وأهمية أكثر للمكان تفرضها وقائع وتطورات العدوان مع ما جرى من تصعيد للحرب العدوانية حيث كانت مجزرة اطفال ضحيان هي المحرك لي قبل العيد بأيام لزيارتي لصعدة ..ولئن تأخرت عنها لظروف منعتني فإن اختيار صعدة بالنسبة لي كان وبقي في اهتمامي امرا واردا .. وفيها تتنوع الموضوعات الجاذبة للاهتمام عموما وذلك من موقع ان صعدة تقع في شمال اليمن وجنوب حدود السعودية حاليا وصعدة على اتصال حدودي طويل مع اقليم نجران وجيزان وعسير المحتل سعوديا منذ حرب 1934م اضافة الى خصوصية نشأت في دورات التاريخ واحداثه ومن مجتمع تشكلت فيه عدة المقاتل وادوات الفلاح وفطرته اليمنية ومن أرض خصبة تجود بالعطاء وبين سياسات اقتصادية خلال اربعة عقود على الاقل موجهاتها الرسمية تبعية مطلقة وفوضى سوق حرة تبيح وتستبيح الرعية والاقتصاد بمجمله وأحد فروعه الزراعة التي كانت عماد حضارات اليمن قبل الاسلام وبعده .. وسأبدأ تناول هذه الموضوعات بحسب الانطباعات التي تقررها الزيارات اليومية وسأبدأ من مزارع الفاكهة في صعدة ..
تجود الأرض الطيبة بما في بطنها من عطاء باذخ وسخاء لا ريب فيه وتنحني الاشجار مثقلة بأحمالها اول ما لفتني اعتراف الفلاح بمحصول الفاكهة الطيب لهذا العام بأحمال ترسم الابتسامة في وجه الفلاح الذي يشعرك بكرمه وهو يعترف لله وللأرض بما اعطت ..
أينعت رؤوس فاكهة الرمان وتدلت عناقيد العنب وحان قطاف ما استوى منها ناضجا والسماء تعاود عنايتها على الثمار بلطف وبأمزان خجولة هادئة تمنح الاشجار خفيف المطر وبأكف رحيمة وحانية لا تسمح بإيذاء عناقيد العنب الذي لا يحتمل غزارة المطر فيمسه الضر كعادة بعض المواسم .. وكأنها تلامس قلق الفلاح وتتحاشى إلحاق الأذى به وبمحصوله المنتظر ..وبقدر ما يناله السرور من عطاء الارض وحنية السماء حتى تلاحقه اشباح الخوف من آفات السوق الحر التي تفتك به وبمنتجه بأسعار بخسة تقضي على قيمة المحصول وأسعاره بحيل احتكرتها رؤوس المال المسيطرة على سوق الفاكهة .
منذ الوهلة الأولى لفت انتباهي مشهد الأسوار الترابية الدالة على أن مزارع للعنب والرمان او التفاح وغيرها مما تعطيه ارض حباها الله بالطيبة والكرم .. تراءت لي مساحات عاقرة يبدو انها كانت مزارع لهذا النوع و خلال عقد ونصف عبر زحف النوائب والمصائب نحو الفلاح وأرضه باتت اطلالا مهجورة واثار ارض كانت مزروعة …ادركت ذلك بحسي الفلاحي .. ووجهت سؤالي الى صديقي المزارع الصعدي الذي التقانا على غير موعد ودعانا وأصر على الغداء عنده فكان هو الذي عاش المشكلات تلك .. هو من اعطاني الجواب : نعم هذه كانت مزارع منذ عام 2004 كثير منها تعرضت للهجر والهلاك خلال تلك المرحلة وهو ما اجابني به بنفس الاسباب من كلام مزارع آخر شاركنا جلسة المقيل وبنفس الافادة الاولى .. هذا العام اعطت الاشجار ثمارها بسخاء على غير العادة .
غير ان شبح الخوف سرعان ما يعلو محيا الفلاح الصغير خشية واقع وشروط السوق الواقع تحت حيل القائمين بالشراء من جهة واكثر من ذلك غياب مزمن من اي دور للدولة ممثلة بوزارة الزراعة ومن غياب مطلق لمؤسسات حكومية تتولى القيام بالحد الادنى من تولي وظيفة بيع وشراء المنتجات الزراعية وتخزينها بأسعار عادلة فضلا عن غياب مطلق لأي دور يساعد الفلاح منذ البذرة وحتى الثمرة .. ناهيك عن بقاء الفلاح عرضة لمزاج شركات الوقود المخصص … ضف الى ذلك ما ألقته آلة الحروب من نيران تحرق ما وجدت .. ومن جهة خنق المزارعين باحتكار مادة الديزل على سبيل المثال منذ عام 2004 وما تلاها ….
بعد هذا الغياب فالمزارع فريسة دائمة لأسعار الوقود ولشروط السوق الذي يحكمه حفنة من محتكري وسائل العيش والانتاج ..
هكذا فان فئة صغار الفلاحين تلاحقها الخسائر والخيبات وكثيرون منهم بل الاغلب اجبروا على البقاء متفرجين على اشجارهم المروية بالعرق تذبل وتتهالك حتى باتت أسوار الجراب حاميات لأرض عاقرة وهؤلاء بالأغلب هم فلاحون صغار ..
لكن كبار الملاك من يملكون من ثمانين الى مئة قطعة أو ما يعرف بالمحيات , فلديهم امكانيات استغلال قطعهم بمنتجات موسمية سريعة الربح من نوع زراعة الخضار الموسمية السريعة الانتاج كالطماط مثلا او الخيار ..
من المفارقات المأساوية في هذا الصدد أن التجارة السعودية تصطفي الاعلى جودة من منتجاتنا هنا وتلقي بالأقل جودة من حيث مواصفات حجم الفاكهة وذلك بأبخس الاثمان ووجدت السعودية منذ حازت على اتفاقات اقتصادية مع حكومات صنعاء نصوصا تفتح بلادنا لمنتجها من التمر معفيا من الرسوم ودمرت بذلك منتجات النخيل في حضرموت وتهامة ..ووجدت سبيلا مفتوحا لتشتري أجود ما لدينا دون ان تنال خزينتنا فلسا واحدا …
هكذا اتفاقات ظلت وبقيت الى اليوم تنفذ مفاعيلها الحربية اقتصاديا والماثلة الخطر المتعدد الالوان وللأسف اسميت باتفاقات التعاون والتبادل الاقتصادي وقد جعلت البلد مفتوحا لمنتج التمر السعودي وتجعل منتج الفاكهة اليمنية نهبا لتجارة مفتوحة .
كل ذلك ظل يشكل خطرا يلحق الخسارة بالمزارع اليمني في خطي التبادل الاستيراد والتصدير في ظل عقود من الزمن والاخطر ان تبقى العلاقة السلبية اقتصاديا على المدى القريب والأخطر على منتجنا الزراعي على المدى المستمر وأثره المدمر يوميا ..ومنذ الحرب السعودية على اليمن باتت هذه العلاقة هي الاخطر اذا اضفت اليها ان اليمن تبيع أجود منتجاتها من الرمان والعنب من صعدة ومن الموز والمانجا من تهامة لتفتح سوق اليمن لأرد أنواع المعلبات الغذائية ذات التركيب الصناعي الكيميائي وما يحتويه ذاك المنتج من آثار خطيرة وسامة ..

قد يعجبك ايضا