أي الخيارات أقرب على أعتاب خريف مشتعل؟
إيهاب شوقي*
تعج المنطقة هذه الأيام بأحداث مكثفة، منها ما هو دبلوماسي، ومنها ما هو عسكري.
إلا أن الصوت الأعلى هو للتصريحات والتسريبات والشواهد، والذي تضفي على المشهد تصعيداً مضافاً.
ولفض الاشتباك بين الواقع وبين المشهد الذي يراد تصديره، ولإزالة سحب الدخان الحاجبة لحقيقة المشهد، يجدر بنا مناقشة عدة حقائق، لعلنا نستنتج صورة أقرب للواقع والذي لا يستطيع أحد المجازفة بذكر حقيقة مطلقة به، لأن التفاعلات على الأرض قد تغير المشهد من حقيقة لأخرى مناقضة في لحظة خاطفة.
ومما ينبغي مناقشته ما يلي:
أولاً: مناقشة التحركات العسكرية الأمريكية اللافتة، وأوضح مثل، ما أفادت به وزارة الدفاع الروسية، بأن المدمرة الأمريكية “يو إس إس سوليفان” وصلت إلى الخليج العربى محملة بـ 56 صاروخا من طراز كروز بهدف تنفيذ ضربة على سوريا.
وكذلك، ما ورد في الإفادة ذاتها من وصول القاذفة الاستراتيجية الأمريكية “?-1?” إلى قاعدة “العديد” فى قطر محملة بـ 24 صاروخا مجنحا من طراز “AGM-158 JASSM”.
وما يجب مناقشته هنا، هل هذا التحرك علامة كاشفة لضربة عسكرية وشيكة؟
التاريخ والشواهد تقول انه ليس شرطا، حيث جلبت أمريكا مرارا وتكرارا قاذفاتها ومدمراتها، وكانت للضغط والترويع مرات وللضربات المحدودة المحركة للتفاوض مرات، ولحروب حقيقية مرات أخرى ولكن بتحرك عسكري اشمل ومغاير وبشروط سياسية وتنسيقات وعوامل أمان ليست متحققة في هذه اللحظة.
ثانيا: مناقشة التحركات السياسية والتي كان أكثرها لفتاً للانتباه ما أعلنه وزير الخارجية مايك بومبيو، في 16 أغسطس 2018م عن إنشاء “مجموعة عمل إيران” لتنسيق سياسة الولايات المتحدة بعد انسحابها من اتفاق (5 + 1) المتعلق بالملف النووي، وهو ما يرى البعض مثل تييري ميسان على سبيل المثال، انه استئناف من قبل إدارة ترامب لسياسة المحافظين الجدد الرامية لتغيير النظام في إيران. ما يضفي مصداقية على الاتهام الموجه ضد إدارة ترامب في إعادة إحياء هذه الإستراتيجية، هو أن السفير جيمس جيفري قد تم تعيينه للتو ممثلاً خاصاً لسوريا، والذي تعد كل مسيرته المهنية، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، تدور حول إيران.
وما ينبغي مناقشته هنا هو مدى اتساق ضربة عسكرية محتملة تتجاوز اثارها حدود سوريا، مع وجود مجموعة انشئت لتخطيط (سياسات) كلفظ يشكل ساترا لحقيقة التكليف وهو (مؤامرات) للإطاحة بنظام الحكم بشكل ملون لا بشكل عسكري.
بعد هذه المناقشة يمكننا ان نقول اننا نميل لأن يكون ما يحدث من شواهد تخدم فكرة التصعيد العسكري، هي مناورة في الأغلب، أو مقدمة لضربة محدودة محركة للتفاوض، وليست خيارا عسكريا شاملا.
وهذا الميل له ما يؤيده من شواهد أخرى عبر رصد تحليلات وتوصيات مراكز الدراسات الكبرى الأمريكية، والتي يمكن من خلالها تبين ما بين السطور، ويمكننا هنا ذكر عدة أمثلة:
1- كتب “فرزين نديمي”، المتخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج، لمعهد واشنطن في ملخص لمقال تناول تطورات الصراع الأمريكي الإيراني، قائلا: “تجدر الإشارة إلى أن الهدوء الذي تعاملت به إيران مع تدريباتها البحرية الأخيرة واختبارات “فتح مبين” لهوَ واقعة معبّرة. فقد يساور قادة النظام والحرس الثوري القلق من أن تتسبب التمارين العسكرية الواسعة النطاق بإثارة غضب الشعب”، وفق زعمه.
وهنا يمكن استبيان جانب من عمل المجموعة الأمريكية المشكلة لمواجهة إيران، وهو جرّ ايران لسباق للتسلح عبر حشد عسكري أمريكي في قاعدة “العديد” او في نطاق هرمز، مع تصعيد الأوضاع في سوريا لاطالة امد الحرب، ويتزامن ذلك مع تأليب الشعب الإيراني على النظام وخاصة مع تشديد العقوبات والحصار.
2- تراجع بولتون وهو من صقور المحافظين الجدد، عن خياره العسكري التقليدي، وقد كتب بولتون مقالاً في صحيفة نيويورك تايمز منذ عدة سنوات، أعلن فيه صراحة أنه من أجل “وقف القنبلة الإيرانية”، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى “قصف إيران”، وقد تراجع وأعلن مؤخرا “فقط لكي نكون واضحين، فإن تغيير النظام في إيران ليس سياسة أمريكية. لكن ما نريده هو التغيير الهائل في سلوك النظام. سنقوم بأشياء أخرى للضغط على إيران كذلك.”
وهو ما يصب في خانة تراجع الخيار العسكري لخيارات اخرى، منها الضغط على النظام الإيراني لانتزاع تنازلات، وهو ما يعكس خيبة أمل أمريكية ويأس حتى من تغيير النظام بشكل ملون عبر قلاقل داخلية!
ولعل “جوناس اليكسيس” مؤلف كتاب” الصهيونية مقابل الغرب” قد وضع يده على نقطة مفصلية عندما قال: “ان إيران تلتزم بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. الدولة الوحيدة التي لم توقع على المعاهدة هي “إسرائيل”، لذا فإن أي سياسة خارجية تخفق في معالجة هذه القضية المركزية هي فشل. وهذا هو السبب في فشل النظام العالمي الجديد وألعاب الدمى مثل جون بولتون فشلا ذريعا وبشعا.”
ونضيف هنا ان صمود محور المقاومة ككل أمام الحصار وصموده العسكري الأسطوري وتماسك شعوب المحور والتفافها حول خيار المقاومة هو السبب الرئيس في فشل أمريكا في خيار القوة، ناهيك عن الفشل السياسي.
3- يقول الخبراء الذين تحدثوا إلى “ديفينس نيوز” إنه حتى لو قللت الولايات المتحدة بشكل كبير من وجود حاملة الطائرات في الخليج، فلن يكون لها تأثير عام يذكر على التوازن الاستراتيجي للقوى هناك، وقال بريان كلارك، ضابط غواصة متقاعد ومساعد كبير سابق لرئيس العمليات البحرية الأمريكية، جوناثان غرينت، إن هناك مؤشرات حتى على أن وجود حاملات الطائرات في الخليج ربما تصب في صالح ايران لقربها من يدها، وقال كلارك: “الإيرانيون الذين جئنا بهم تحدثوا إلينا، قالوا جميعًا بشكل موحد، إن الإيرانيين يعتبرون الناقلات في الخليج العربي رهينة يمكنهم اختيار مهاجمتها في أي لحظة”.
وهنا يمكننا استنتاج ان تحريك المدمرات ليس مؤشرا مباشرا على تغيير توازن استراتيجي، بل ربما يكون العكس اصح، حيث يخدم نظرية المناورة!
على كل حال، فجميع الاحتمالات واردة، والمقاومة ومحورها وشعبها جاهزون لجميع الخيارات، إلا خيار واحد، وهو التفاوض على المبادئ والثوابت.
كاتب صحفي مصري