اليمن.. بوابة الصراع العربي – الإسرائيلي في الجنوب
عبير بسام
الصراع على اليمن ليس صراعاً جديداً وخاصة بين السعودية والقيادات الثورية التي نشأت في اليمن في القرن العشرين. وهو يتعلق بالأساس بموقعه الجغرافي الهام. فهو كان ومايزال يسيطر على أحد أهم الممرات المائية في العالم، ألا وهو مضيق باب المندب، الذي يقع على البحر الحمر ويصل ما بين البحر المتوسط وبحر العرب، وينفتح على المحيط الهندي. ويكتسب اليمن في العصر الحديث أهمية خاصة بالنسبة للمنطقة العربية والصراع من أجل السيطرة العالمية عليها، وخصوصاً فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي.
فشل العثمانيون في بداية تأسيس سلطنتهم من السيطرة على اليمن، إلا أنهم استطاعوا في العام 1872م من احتلال بعض المدن الكبيرة فيه، وقاموا بتأسيس ولاية اليمن بدلاً من الدولة القاسمية التي أسسها الإمام المنصور بالله القاسم. وفي الفترة ما بين 1904-1911م أخرج اليمنيون العثمانيون من بلادهم وكبدوهم خسائر وصلت إلى عشرة آلاف قتيل، ولذلك سمي اليمن بمقبرة العثمانيين. خلال الفترة ذاتها، وفي العام في العام 1839م تمكن البريطانيون من احتلال عدن التي قاومت بضراوة وانسحبت القوات المصرية منها في العام 1840م. وكان الاستيلاء على عدن بداية من أجل توسيع النفوذ البريطاني في جنوب اليمن والبحر الأحمر وبالتالي الساحل الإفريقي.
معرفة تاريخ اليمن ومكانته الجغرافية الهامة يمكنه أن يشرح الكثير عن الصراع الذي نشأ ما بين جمال عبد الناصر وما بين السعوديين والمدعومين من البريطانيين، في وقت كان الخلاف على أشده ما بين عبد الناصر والبريطانيين. كان عبد الناصر يرى في السيطرة على البحر الأحمر وممراته وجعله تحت سيادة الدول العربية في ظل حكومات تقدمية يمكنه أن يغلق البحر الأحمر في وجه الكيان الاسرائيلي والغرب.
ويتحدث حسنين هيكل عن أهمية اليمن في الخطة العامة التي وضعها جمال عبد الناصر من أجل مساندة الثورة والقضاء على حكم الإمامة الملكية فيه، والتي لم تكن مصادفة أو قراراً عشوائياً، بل كان لمصر الدور الأساسي في تفجير الثورة فيه. فقد رأى عبد الناصر، الذي احتلت فلسطين مكانة كبيرة لديه، أن من سيطر على فلسطين يهدد سيناء ومن سيطر على سيناء سيطر على قناة السويس، ومن سيطر على القناة سيطر على مصر والبحر الأحمر ومن سيطر على مصر سيطر على الوطن العربي كله. وحدد عبد الناصر بذلك، في العام 1952، أن العدوين الأساسيين لمصر هما بريطانيا و”اسرائيل”، وما دامت بريطانيا في المنطقة فليس من الممكن تحرير فلسطين. وثبت في حرب تشرين من العام 1973م أنه بعد انتصار الثورة في اليمن كان من الممكن فعلياً التحكم بمداخل البحر الأحمر الشمالي والجنوبي وهذا ما لعب دوراً هاماً في النصر الذي تحقق في حرب تشرين التحريرية.
في 19 ديسمبر من العام 1962م نجح عبد الناصر في زمن الرئيس جون كنيدي بالحصول على اعتراف أمريكي بحكومة الثورة في اليمن، كما طلب منها تقديم المعونات للحكومة الجديدة. الأمر الذي واجهته السعودية بالرفض وواصلت دعم القبائل الموالية لحكم الإمام. وتعرض الرئيس كنيدي حينها لضغوط شديدة من قبل شركات البترول والبنوك الأمريكية إلى جانب الحكومة البريطانية التي ضرب آخر معقل لها في الجزيرة العربية. ووضعت خطة باسم “سميت” أي “السطح الصلب” والتي تعهدت فيها الولايات المتحدة ضمان سلامة وأمن النظام السعودي والسعودية، وتعهدت السعودية بمساعدة كل من بريطانيا وشركات البترول الأميركية تشكيل تحالف دولي لتجنيد مرتزقة من كل أنحاء العالم لقتال الثورة والقوات المصرية في اليمن.
وأنشأت السعودية للملكيين محطة اذاعية للتنديد بالنظام الثوري الجديد. عندما حوصر المرتزقة في اليمن، حاولت السعودية رمي المعدات والطعام لهم بواسطة سلاح الطيران اليمني والسعودي، فما كان من الجهتين إلا أن رفضا الخضوع للأوامر وقام الطيارون بالهبوط في مصر وطلبوا اللجوء السياسي. عندها تولى كيان العدو الاسرائيلي القيام بهذه المهمة. علماً أن الراحل عبد الناصر توصل لإتفاق مع الملك فيصل إلا أن الأخير عاد ونقضه.
هكذا كانت المملكة السعودية تعتبر أن انتصار الثورة في اليمن تقويض لحكمها، على الرغم من النزاعات التي كانت قائمة ما بين العائلة السعودية وما بين نظام أسرة عبد الحميد في اليمن، وأن عبد الناصر يريد من حرب اليمن القضاء عليها وتقسيم السعودية ما بين الأردن واليمن والعراق. على المقلب الغربي، اعتبرت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أن عبد الناصر قد تجاوز جميع الخطوط الحمر، وبات من الضروري الإطاحة به خصوصاً أنه قد اتجه بجيشه إلى منطقة الجزيرة، والتي تعتبر منبعاً من منابع الكنز بالنسبة للغرب. كما أن مناداته الدائمة بأن بترول العرب للعرب، وأنه يجب استخدامه كسلاح من أجل تحقيق المصالح العربية، إضافة إلى عدائه الدائم لـ”إسرائيل” ورفضه “الصلح” معها. وهذا ما أدى إلى ضربة 7 يونيو 1967. هذه الضربة التي جاءت بطلب سعودي صريح من أجل إيقاف عبد الناصر عن العمل مع الثورة التي دخل إليها مع جمال عبد الناصر مشروع بناء مؤسسات الدولة والتعليم والتعرف إلى القضايا العربية وبخاصة فلسطين التي غدت القضية العربية الأولى في اليمن.
كان الطلب السعودي من كل من البريطانيين والأميركيين من أجل شن الحرب على مصر صريحاً. وفي 21 يونيو 1966م وصل الملك فيصل إلى الولايات المتحدة وسبقته قبل ذلك مجموعة من السعوديين التي أوضحت للأميريكيين أن المشكلة بالنسبة للسعوديين ليست “اسرائيل”، وأن الخطر الحقيقي هو حركة القومية العربية كما تمثلها القاهرة، وأن السعودية ماضية في تشكيل المؤتمر الإسلامي كبديل للجامعة العربية. خلال الزيارة التقى فيصل بالرئيس جونسون لمدة نصف ساعة في اجتماع منفرد. وفي وثيقة حملت الرقم 342 من وثائق مجلس الوزراء السعودي بتاريخ 27 ديسمبر في العام 1966م والتي طلب فيها وبشكل صريح أن تقوم أمريكا بدعم “اسرائيل” في شن عدوان خاطف على مصر بدعم أمريكي وباحتلال مناطق حيوية تشغل مصر بـ”اسرائيل” عن السعودية، فتضطرها إلى سحب جيشها من اليمن. كما أوصى باحتلال الضفة الغربية وغزة حتى لا يبقى أي مجال حيوي في داخل فلسطين يستطيع الفلسطينيون التحرك ضمنه، وعندها ينقطع أمل اللاجئين بالعودة ويتم توطينهم في الدول العربية التي هم فيها. كما طلب احتلال مناطق من سوريا كي لا تتفرغ هي “الأخرى” فتندفع هي لسد الفراغ الذي تركته مصر.
وما يزال اليمن يحتل الموقع الاستراتيجي الهام ذاته، وعندما اندلعت ثورة 11 فبراير 2011م في اليمن، لم تكن السعودية بقادرة على خوض تجربة يمن عبد الناصر مرة أخرى. وعندما فشلت بفرض حكومة عبد ربه كان لا بد من اتخاذ الإجراءات نفسها التي اتبعتها إبان زمن عبد الناصر، ولكن لم تبق هناك لا قدسٌ ولا ضفةٌ ولا غزةَ تساوم عليها مقابل الدعم الأمريكي في حربها الشعواء، وفي هذا الإطار جاءت صفقة القرن.
* العهد