التاريخ يصنع وعينا (15): مقاومة أحرار تهامة للغزاة العثمانيين والبريطانيين في التاريخ الحديث .. 2
حمود عبدالله الأهنومي
واجه الغزاةُ مقاومةً يمنية شرِسة وعنيفة لا تلين ولا تستكين، ليس فقط في المنطقة الجبلية من اليمن، بل وحتى في الساحل، وتهامة اليمن بالتحديد، إلى الحد الذي أطلق على اليمن – دون سواه من بلدان هذا العالم – لقب (مقبرة الغزاة)، و (مقبرة الأتراك) أو (مقبرة الأناضول).
أسباب اشتعال المقاومة
يأتي في مقدمة أسباب المقاومة اليمنية للغزاة اعتزازُ اليمني بكرامته، واعتدادُه بعزته، وأنفتُه من أن يُضَام أو يُظْلَم، أو يُهان، أو يُذَل، ولا سيما في أرضه، من قبل غزاةٍ أجانب؛ فالروحُ القبلية الاستقلالية هي المسيطِرة على اليمني، وهي ما ميَّزَتْهُ طيلة تاريخه، لقد كان يبذل الغالي والرخيص في الذود عن حريته، وكرامته، وعزته، ورفْضِ تسلُّط الآخرين من أبناء.
فهذا – على سبيل المثال – الشيخ أحمد فتيني جنيد، أحد مشائخ الزرانيق، الذي قاد لاحقا تمردا قويا على حكومة الإمام يحيى، وبعد صعوبة بالغة تمكن سيف الإسلام أحمد بالتعاون مع قبائل تهامة من القضاء على حركته، إلا أنه – مهما اختلفنا معه في بعض توجهاته – كان يعبِّر في كثيرٍ من مواقفه عن ذلك اليمني الذي يأنف من الخضوع للأجانب، والخنوع للغزاة والمحتلين، وينتصف لعزته، وينتصر لكرامته، فقد ورد في حولياتٍ يمانية عن موقف له مع الأتراك، وقد كانوا يحكمون سائر البلاد، وأنه مرة اتصل بالمتصرِّف التركي بقضاء «بيت الفقيه» في بعض أغراضه لديه، ولعل المتصرِّف كان مخموراً، فأغلظ القولَ للشيخ أحمد ولطمه في وجهه، فاستل الشيخُ جنبيتَه، ووضعها في ترقوة المتصرِّف، حتى نفِذَ بها إلى أسفل بطنه، ثم خرج إلى قبيلته يعلن العصيان.
كما يظهر أن الروح الوطنية وإن كانت تَظْهر أحيانا في شكل هُوِيَّات صغيرة على مستوى القبيلة أو الإقليم أو المدينة، إلا أنها هي التي دفعت الثوار إلى طرد المحتلين والغزاة الأجانب، بسبب كونهم أجانبَ وغزاةً حطّت رحالُهم يوما في بلد ليس هو بلدَهم، وأرضٍ ليست أرضَهم.
ويشير مؤرِّخ تهامة الدكتور عبدالودود مقشر أن من الأسباب التي حرَّكت ثورة أبناء تهامة الأحرار ضد الاحتلال التركي هو سوءُ إدارة السلطة العثمانية في اليمن، وظلمُ الولاة، وانحرافُهم، واستبدادُهم، وقسوتُهم، وتعاليهم، وعجرفتُهم، وممارستُهم لكل أنواع التعذيب والجبروت، والفساد.???
?يضيف: أنه لم يكن معظم الموظفين الأتراك يؤمنون بأنهم يقومون بعملٍ وطني لصالح دولتهم، بل كانوا يشعرون أن اليمن منفى وإبعاد لهم؛ لهذا كان تفكيرهم منصَبًّا على كيفية الإثراء سريعا خلال مدةٍ قصيرة قبل أن يُعْزَلوا، فهُرِعوا إلى اتّباع أساليب متعدّدة لابتزاز اليمنيين، واختلاسِ أموالهم بالقوة والإكراه، وإرهاق الأهالي بتحصيل الأموال غير المشروعة، وفي أوقات متكررة، وتحت الضغط والحبس والتنكيل، وبالتكليف بما لا يطاق.
ورغم أن الباب العالي والسلطان العثماني كان يدعي أنه خليفة لله على أرضه، وأن دولته هي دولة الخلافة الإسلامية، إلا أن كثيرا من ولاتهم على اليمن لم يكونوا ملتزمين بالعقيدة والقيم الإيمانية، بل كانوا يسارعون إلى إرضاء شهواتهم باستحلال الحرمات، وتركهم ما أمر الله به من الفروض والواجبات، وانغماسهم في الشرور والمعاصي، وكان ارتكابهم الزنا واللواط والبغي وشربَ المسكرات أمرا فاشيا، وهذا هو دأب كل الغزاة والمحتلين في كل زمان ومكان.
يحكي الشيخ العالم المجتهد صالح بن مهدي المقبلي (ت????هـ) سوء الحال الذي وصل إليه اليمنيون – ولا سيما في المناطق الجبلة – تحت حكم تلك الخلافة المزعومة، بقوله في (العلم الشامخ ص311): “ولما كانت الأتراك قد عاثت في اليمن، وفعلوا الأفاعيل بنفوسهم أولاً من الخمور والفجور، وبالناس ثانياً من الفتك ونهب الأموال وغير ذلك، حتى ألجأوا الناس إلى أن يحجبوا البنين كما يحجبون البنات، فقامت عليهم الزيدية الأطهار، الذين هم شيعة آل المختار، بحمية عربية حتى كان بعضهم يقيم التركي مقام الثور في حرث الأرض في بلاد الأهنوم، وصار عندهم مسمى التركي علَماً على ذلك أعني الظلم وسائر الخبائث”.
وهي أمور لا يخلو منها احتلال ولا غزو؛ فمن اغتصب الأرض هان عليها اغتصاب كل شيء سوى ذلك.
ومن أساليب الأتراك التي أثارت نقمة اليمنيين ولا سيما التهاميين عليهم إثارةُ النعرات والحروب القبلية في تهامة، ثم التدخُّل لفَرْضِ أموالٍ جزيلة على المتخاصمين، سموها (الجراد)، كما حصل في عهد مصطفى عاصم باشا حيث وقعت حربٌ بين الجرابح وبني البرة من بني صليل في رمضان 1294هـ / سبتمبر 1877م بتحريض من القيادة العثمانية بتهامة، لتتدخّل بعد ذلك عسكريا بقيادة عثمان باشا، ولكن بعد إنهاك الطرفين، ويصل عثمان باشا إلى الزيدية فيفرض أموالا ضخمة سماها بالجراد، وأخذ من كل شخص ريالا، فمن أطاع سلِم، ومن عصى ربطه في المدفع في الشمس حتى يُسلِّم.
هذه الأسباب والظروف والعوامل هي التي دفعت اليمنيين ولا سيما أحرار تهامة للثورة على القوى الاستعمارية عموما، وعلى الأتراك العثمانيين خصوصا، على رغم ادعائهم للخلافة الإسلامية، وتظاهر سلاطينهم بخدمة الإسلام، وإعلانِ أن دولتهم هي (دولة الإسلام) التي تجاهد اليهود والنصارى والمشركين، وتمثل المسلمين وتدافع عن مصالحهم في هذا العالم.
وبهذا يتبين:
-أن الأسباب والعوامل التي ثوَّرت آباءنا وأجدادنا ضد الغزاة والمحتلين هي ذات الأسباب التي يجب أن تثوِّر كل من لديه ذرة من حرية أو كرامة أو إنسانية أو وطنية، ولا فرق في ذلك بين يمني وآخر.
-ويتبين أنه أينما حل الاحتلال حل معه الاغتصاب والمنكرات، ولا فرق في ذلك بين المدعين للإسلام أو اليهود والنصارى، فاغتصاب الأرض والقرار والسيادة مؤذنة باغتصاب كل شيء وراءها.
-ويتبين أن آباءنا ثاروا حتى على أولئك الذين كان لديهم كثير من مظاهر الإسلام والحفاظ عليها، وهي الخلافة العثمانية، فكيف بنا ونحن نرى محتلين جددا تقودهم أمريكا الصليبية وتشاركهم إسرائيل الصهيونية، وحلفا تجمع فيه كل أشرار الكفر والعمالة والارتزاق والنفاق؟!
-والشيء المهم الذي يجب أن يفهمه الغزاة وأولياؤهم ومرتزقتهم أن حالهم ليس أحسن حالا ممن سلف من قبلهم ممن مروا على هذه البلاد، ودنسوا كرامتها، وسرعان ما ارتد عليهم أبناؤها قتلا وتشريدا وطردا.. (ولا عدوان إلا على الظالمين). يتبع في الحلقات القادمة