كيف أصبح الحج ساحة للصراعات وتسديد الحسابات؟

 

د. سعيد الشهابي

الدين يجمع والسياسة تفرق، هذه حقيقة برغم اعتراضات الكثيرين عليها ممن ينظرون للخلافات السياسية التي تعصف بكثير من البلدان أنها بسبب الدين.
والحج من الفرائض الجامعة للمسلمين، فهم يهرعون لأدائها استجابة لقول الله تعالى: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم».
اجتماع هذه الكتلة البشرية في «أيام معلومات» في بقعة واحدة وبشعار واحد، يجعل الحج أحد أكبر التجمعات البشرية. وخلال أداء هذه العبادة لا يختلف الحجاج في ما بينهم حول طرق أداء الشعائر، برغم الاختلافات الفقهية حول بعض تفصيلاتها.
إذن من أين يأتي الاختلاف الذي لا يخلو منه موسم حج؟
الأمر المؤكد ان «تسييس» أجواء هذه العبادة من بين أهم أسباب ذلك الاختلاف. والتسييس هنا لا يرتبط ابدا بطرق أدائها أو بممارسات المشاركين، أو ما يطرحونه أو يناقشونه، بل بالأجواء العامة التي تحكمها، خصوصا العلاقات بين دول المسلمين.
اختلافات حكامها تنعكس عليها لأنها العبادة الوحيدة التي تتطلب انتقال كتل بشرية عبر حدود البلدان. وبدلا من ان يكون ذلك التواصل سببا للتقارب والتعارف فقد انعكست الخلافات السياسية على أجوائه.
ورغم أن العقود الأخيرة شهدت توترات خلال الموسم بين إيران والسعودية، إلا أن التأزم ليس محصورا بإيران. فقد كانت هناك أزمة كبيرة بشأن الحجاج العراقيين في ذروة التوتر الذي نجم عن الاجتياح العراقي للكويت في 1990، وانعكست أجواء الأزمة السورية على موسم الحج أيضا.
وكثيرا ما منع النشطاء السياسيون من دخول الأراضي السعودية لأداء فريضة الحج، ومنهم الشيخ راشد الغنوشي الذي لم يستطع أداء الفريضة إلا بعد “الربيع العربي” الذي أدى للتغير السياسي في بلده.

وما يزال الآلاف من النشطاء محرومين من أداء الفريضة بسبب أنشطتهم المعارضة لحكومات بلدانهم أو مواقفهم الناقدة للسياسات السعودية.
الحوادث الأليمة التي تكرر حدوثها خلال أداء الشعائر، كالحرائق والتدافع والمواجهات مع الشرطة أدت لموت الآلاف من الحجاج خلال العقود الأربعة الأخيرة.
ففي 1987 تصدت أجهزة الأمن السعودية لمظاهرة إيرانية تحت شعار «البراءة» من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، وقتلت اكثر من 400 من الحجاج جلهم من الإيرانيين. وفي 1990 وقعت حادثة نفق «المعيصم» التي فقد أكثر من 1400 من الحجاج فيها حياتهم.
وتكررت حوادث الحريق خصوصا في الخيام المنصوبة بمنطقة منى وأدت لمقتل المئات. وكان التدافع بتلك المنطقة في 2015 آخر الحوادث الكبرى اذ أدت لمقتل أكثر من 2000 من الحجاج حسب إحصاء وكالة أسوشيتد برس، بينما قالت السلطات السعودية إن عدد القتلى كان اقل من 800 شخص.
وكثيرا ما وجهت انتقادات حادة لأساليب الإدارة السعودية للحج، وطرحت اقتراحات متكررة بتدويل هذه الفريضة وإخضاع إدارتها لهيئة دولية بمشاركة الدول الإسلامية. وتصاعدت تلك الدعوة في العقود الأخيرة بعد ان كررها الإيرانيون منذ مطلع الثمانينيات.
وأكد قائد الثورة الراحل الإمام الخميني أن الحج فريضة دينية سياسية، وألزم الحجاج الإيرانيين برفع وترديد شعارات سياسية مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، ومطالبة بوحدة المسلمين بوجه أعداء الأمة.
ويمكن القول ان تسييس الحج عمليا انما مورس من قبل الحكومة السعودية، فهي تستخدمه لدعوة الشخصيات السياسية والدينية لاستمالتهم لسياساتها، وتنظم المؤتمرات والندوات التي تهدف للتأثير على الحجاج.
حول الحج ومعانيه وترويج فهم واحد مؤسس على انحياز لمدرسة فكرية دون غيرها. يضاف إلى ذلك ممارسة السياسة الانتقائية في تطبيق احكام الشريعة المرتبطة بالحج.

اما مشكلة هذا العام فمرتبطة بالأزمة التي افتعلتها السعودية مع قطر العام الماضي. تلك الأزمة التي كادت تؤدي لعدوان على ذلك البلد الخليجي الصغير، لها وجوهها المتعددة التي تكشف عمقها. ولم تستطع السعودية ان تنأى بالحج عن هذه الأزمة.
فهناك قطيعة شبه كاملة مع قطر، أدت لمنع دخول القطريين الأراضي السعودية، وفرضت أجواء عداء غير مسبوقة كرستها قرارات الحصار الجوي والبري والبحري التي فرضها التحالف السعودي ـ الإماراتي على دولة عضو بمجلس التعاون الخليجي.
وتكشف الوثائق التي نشرت مؤخرا الإجراءات التي فرضتها الرياض على الحجاج القطريين، وفرض شروط تعجيزية لا تنسجم مع الفريضة المقدسة واخلاقها.
لذلك أصبح أداء الفريضة من قبل المواطنين القطريين شبه مستحيل لما ينطوي عليه من اهانات وإجحاف وتعميق الشعور بالاستهداف الذي يشمل التنكيل والمضايقات.
ويفترض ان تعمق فريضة الحج مشاعر التوحيد والتحرر من الشياطين وتعميق الصلة بالله وحده، الأمر الذي يقتضي المفاصلة مع من وضعوا أنفسهم بموازاة الخالق سبحانه وتعالى الذي هو الحاكم المطلق: «ألا له الخلق والأمر».
وكانت قطر قد قامت بتسجيل أكثر من 20 الفا من حجاجها، ولكن السلطات السعودية، عبر وزارة الحج والأوقاف لم تتجاوب مع طلبات من وزارة الحج والأوقاف القطرية للتنسيق من أجل تسهيل عملية الانتقال إلى السعودية.
ففي 6 يونيو الماضي قالت الوزارة إنها لا تمنع القطريين من أداء مناسك الحج والعمرة، لكنها تحدثت عن «العراقيل والإجراءات التعسفية التي تفرضها السعودية على القطريين دون غيرهم من مسلمي العالم»، منها عدم السماح بعبور الحجاج الحدود البرية إلى داخل المملكة، وهذا ما يزيد المشقة عليهم.
وكانت السعودية والإمارات قد قررتا بناء فاصل مائي على هيئة قناة تحول قطر إلى جزيرة معزولة عن الجزيرة العربية، وستستخدم المنطقة ما بين القناة والأراضي القطرية منطقة لدفن النفايات النووية من السعودية والإمارات.
وقد تعرضت تلك الخطة لانتقادات واسعة لأنها تغيير حقيقي يستغل واقعا شاذا لفرض واقع جديد مؤسس على هوى المسؤولين في الرياض.
الحج هذا العام سيكون أحد المواسم المشوبة بالتوتر والسخط في اجواء حجاج بيت الله الحرام. ومن المؤكد ان ذلك انعكاس للوضع العام الذي تعيشه الجزيرة العربية مع استمرار اعتقال الناشطين الحقوقيين وتصاعد الاعتداءات على اليمنيين.
واستمرار الأزمات السياسية داخل المملكة نفسها ولدى حليفاتها مثل مصر والبحرين اللتين تعانيان من توترات أمنية منذ اندلاع ثورتي مواطنيهما في العام 2011. هكذا أصبحت فريضة الحج تمثل نقطة تماس سياسية حادة سرعان ما تشتعل مع اقتراب موسم الحج.
ومن المؤكد ان هذه الأزمات المتلاحقة ستوسع دائرة المشككين في مدى قدرة الحكومة السعودية على استعادة دور الريادة في مجال تقديم الخدمات لحجاج بيت الله الحرام، والترفع على الاعتبارات السياسية التي يضعها زعماء الجزيرة العربية امام اعينهم خصوصا مع اقتراب موسم الحج.
إن غياب روح التسامح والتعاون والحب من صدور المسؤولين عن الحج والعمرة في الجزيرة العربية سيقلص تدريجيا حماس المسلمين لشد الرحال إلى البيت الحرام بهدف العبادة والانشداد للتاريخ الإسلامي الناصع خصوصا في عهد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
هذه ليست رسالة الفريضة المقدسة بل نتيجة سياسات حكام الجزيرة.
نبارك للمسلمين حلول عيد الأضحى المبارك، وكل عام وانتم بخير.
٭ كاتب وناشط بحريني

قد يعجبك ايضا