التاريخ يصنع وعينا (12): العدوان السعودي على فريضة الحج 1-2
حمود الأهنومي
تتعدد مظاهر العدوان السعودي على فريضة الحج والمشاعر المقدسة، فمرة بـ(تسييسها)، ومرة بـ(سَعْودتها)، وثالثة بـ(أمركتها)، ورابعة بـقتل الحجاج، وإبادتهم، وخامسة بإهمال إدارتها، هذا عدا العوائق والعراقيل وجميع أنواع الصدود التي يتفنن آل سعود في صناعتها، واختلاقها عاما بعد آخر.
في بداية القرن الماضي، حيث كانت بريطانيا الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكثير من مواطنيها عرب ومسلمون، وحيث كانت تخشى من قيام المارد الإسلامي الثائر فيهم، فقد تفتّق الذهن الاستعماري الإنجليزي عن ضرورة السيطرة على أهم مناطق التأثير الروحية، لتكون إحدى وسائل إخمادِ أيِّ نزوع ثوري إسلامي أصيل، يذكِّر بالأمة الإسلامية الواحدة، وبوجوب الجهاد ضد المحتل الكافر، فكان لا بد من السيطرة على الحرمين الشريفين مكة والمدينة، وعلى المسجد الأقصى، لحرمان المسلمين من أهم تغذية راجعة يمكن أن تعيد صياغتهم بالشكل الذي يريده القرآن، من خلال الإفادة من القرآن الكريم، ورسالة الحج الوحدوية الأممية، ورسالة أهم وأعظم ثلاثة مساجد في الإسلام، والتي تُعنى بشكلٍ أساسي بتثبيت الهوية الإيمانية الجامعة للمسلمين جميعا.
حينذاك أثبت عبدالعزيز ابن سعود أنه رجل بريطانيا المفضل في المنطقة، وأنه يمكن التعويل عليه في إدارة الحرمين الشريفين بالشكل الذي يخدم الأهداف الاستعمارية البريطانية، والتي كانت تقوم على المبدأ المشهور(فرِّق تسد). لقد أثبت عبدالعزيز ذلك بعدد من الإجراءات، والجرائم، ومنها انحيازه لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى (1918-1914 م)، وارتكابه مذابح خطيرة بحق عرب الحجاز والعراق وساحل الخليج، والشام، كما نفذ مجزرة سياسية بشعة بحق حجاج اليمن في تنومة وسدوان عام 1341هـ/ الموافق 1923م، ذهب ضحيتها 3105 حجاج، وكانت هذه المجزرة عشاء إبليس الأخير الذي أهّله لدى بريطانيا الاستعمارية لحكم الحجاز، بدلا عن الشريف حسين بن علي، ابن عون؛ لهذا لم يمض سوى عام حتى سقطت الحجاز في يد ابن سعود عام 1924م.
في ذات الوقت، في عام 1917م أطلقت بريطانيا، وعدَها المشؤوم على لسان وزير خارجيتها (بلفور)، وعدُ من لا يملك لمن لا يستحق.
وهكذا سلّمت بريطانيا أهم مناطق التأثير الروحية التي تشكل وعي المسلمين إلى (أياديها الأمينة)، في الوقت الذي أنشأت فيه أقذر كيانين توأمين لقيطين في الجزيرة العربية والشام، للقيام بالدور الذي لا تستطيع هي القيام به.
لقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يُسيَّس الحرمان الشريفان بالسياسة البريطانية؛ فكان احتواء رسالة الحج السامية والقوية، وهي رسالة الوحدة والاعتصام بالقرآن، وكان تثبيت سياسة (فرق تسد)، أهم أهداف بريطانيا من هذه الحركة الاستعمارية الملعونة، ومذّاك فإنه بدلا من أن تطلِق منابرُ الحرمين الشريفين والمشاعرِ المقدسة دعواتِ الوحدة الإسلامية، والاعتصامِ بحبل الله، فإنها أطلقت دعوات الفتن الطائفية، والمذهبية، وعملت على تكريس حالة الخنوع والخضوع للبريطانيين ثم للأمريكيين والصهاينة.
لم يكن اختيار بريطانيا لعبدالعزيز ابن سعود اختيارا عفويا، بل كان نتيجة معرِفةٍ ودرايةٍ بتاريخ أسرته المشين بحق المسلمين في نجد والحجاز.
أحد أجداده، (سعود الأول بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود) في عام 1220هـ / 1806م احتل الحجاز، وارتكب فيه أنواع الجرائم، ثم منع المصريين والسوريين والعراقيين من أن يحجوا، بحجة أنه لا يعجبه إسلامُهم.
في ذلك العام هدّد أميري الحج المصري والشامي بكسر المحمل، وحرقه، وأضاف مشترطا عليهم شروطا ضرورية للقبول بهم حجاجا في العام القابل، وهي:
أولا: أن لا تحلقوا لحاكم.
ثانيا: أن لا تذكروا الله بأصوات عالية، أو تنادوا بقولكم «يا محمد».
ثالثا: أن يدفع كلُّ حاج منكم ضريبة قدرها عشرة جنيهات من الذهب.
رابعاً: أن يدفع أمير الحج المصري والسوري كل منهم عشرَ جواري، وعشرة غلمان، لون أبيض، كل سنة» كما يروي الشهيد ناصر السعيد في (تاريخ آل سعود، ص32 ).
شخصيا لا أستبعد صحة جميع تفاصيل تلك الشروط العجيبة والغريبة؛ فهذه هي العقلية والنفسية الداعشية التكفيرية في نسخها الأولى، ولا فرق بينها وبين نسخها المتكاثرة اليوم.
يؤكِّد السيد زيني دحلان في تاريخه هذه الرواية، ويذكر أنه كان من نصيب المحمل المصري في تلك السنة – التحريق، بأمر سعود، ونادى مناديه بأن لا يأتي بعد ذلك العام حليق الذقن، تاليا قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ..)، قال دحلان: فانقطع مجيء الحاج الشامي والمصري ( دحلان، أحمد زيني، خلاصة الكلام، في بيان أمراء البلد الحرام ،ص(381)..
وبالفعل في عام 1221هـ منع سعود هذا أمير الحج الشامي من الحج، فرجع حجاج الشام تلك السنة من غير حجٍّ، بعد أن وصلوا إلى المدينة المنورة (خلاصة الكلام، ص381). ).وقد أقر المؤرخ النجدي الوهابي ابن بشر بمنع صاحبه للحاج الشامي ومن يأتي من جهة (استانبول)، (ينظر ابن بشر، النجدي، عنوان المجد في تاريخ نجد، مطبوعات دارة الملك عبدالعزيز، ط4، 1402هـ، ج1، ص292).
وعلى ضوء ذلك يبدو أن أهالي مصر والشام واليمن قد امتنعوا عن الحج كليا طيلة ست سنوات حتى تحرير الحرمين الشريفين من سيطرتهم في عهد محمد علي باشا لاحقا على يد ولده إبراهيم ( زيني دحلان، فتنة الوهابية، ص13؛ وناصر السعيد، تاريخ آل سعود، ص23)، حيث قضى على تلك الأسرة التكفيرية سياسيا في مهدها.
هذا هو العام الثالث على التوالي إذ تصدُّ مملكة قرن الشيطان وتعيق حجاجَ اليمن، ومنذ 2011م وهي تمنع الحجاج السوريين من الحج، وخلال نوبات مختلفة تعرّض الحجاج المصريون والأتراك للمنع، وعقب أزمة لوكربي بين أمريكا وليبيا في التسعينات تمَّ منعُ الحجاج الليبيين من الحج بضغوطٍ أمريكية وبريطانية وفرنسية على حدّ قول العقيد معمر القذافي؛ الأمر الذي دفعه لاتخاذ قرارٍ أخرَق قضى بتوجيه بعض الليبيين إلى الحج (السياحة) إلى المسجد الأقصى المحتل، وأعلنت إسرائيل ترحيبها بذلك.
وأما مجزرة الحجاج الإيرانيين في عام 1979م فهي فضيحة مدوية، لم تتفوّق عليها إلا مجازر 2015م1436هـ بسبب إسقاط الرافعة في الحرم المكي، ثم تسبّب ولي العهد المشؤوم بتدافع آلاف الحجاج بعد أن تم توجيه سيول بشرية منهم في اتجاهاتٍ متعاكسة، أدى إلى تدافعهم ودعس بعضهم بعضا، لكي يمر سربٌ طويل من السيارات الفارهة يمتطيها أمير مهفوف، لا يبالي بحياة الناس ولا كرامتهم.
ومنذ عام 1990- حتى 2003م والعراقيون لا يستطيعون الحج إلاّ من خلال الأراضي الأردنية بسبب التزام السعودية بالحظر الأمريكي على العراق، وصولا إلى قطر التي نال مواطنوها منذ العام الماضي نصيبهم من الصد والعراقيل، وانتهاءً هذا العام بمسلمي كندا الذين تسببت الأزمة السياسية بينها والسعودية في منعهم من الحج، ولا ندري عما يخبئه المستقبل القريب من هذه العجائب السعودية.
يتبع في الحلقة القادمة