ضحايا الطفولة في ضحيان: أنقذوا حقائبكم يا دعاة السلام
فؤاد الجنيد
خمسون أمّاً يمنية ودعت براعمها الصغار صبيحة الخميس بقبلات الرضا الدافئة، ومشاعر الأمومة الصادقة والفخورة بمخرجات التحصيل ونفاسة الاقتناء، كفوف كثيرة لوّحت لهم بالوداع وهم يصعدون حافلة كبيرة خصصت لنقلهم إلى مركزهم الصيفي في ضحيان وسط مدينة صعدة ومعها قهقهات بريئة رافقت مشهد الصعود الأخير، وعلى ظهورهم يحتزمون حقائب بلون السماء تحتضن بداخلها كتباً وأقلاماً، ووجبة خفيفة تسد الرمق بين استراحة الدرسين.
ملائكة بأجساد الصغار يتزملون ببراءة الطفولة، تقطن أحشاءهم أرواح الكبار وتخلد في عقولهم وألبابهم مداميك وعي لا تنكسر، رموا بضجيج طائرات الجرم وراء ظهورهم الفتية بالثبات والإقدام، ووسط ظلام الواقع المفروض ما زالوا يتعشمون فجراً مشرقاً يبعثه الأمل بعد كل غروب أصفر، لكن فجرهم الجديد كان فجراً أحمر كسفت فيه الشمس قبل أن تشرق، وزرقة السماء باتت سوداء تخضبها مسالك الطائرات، وضحكات حياتهم الوديعة تخترقها أصداء البكاء ومواويل سيارات الإسعاف، حتى حقائبهم التي نقشت عليها شعارات منظمات السلام والإغاثة الطارئة لم تشفع لهم مقابل إقامتها بين سواعدهم الغضة، بل كانت أول المتناثرين في فضاء الإنسانية البراق ذي القناع الأكبر الذي ظهرت تجلياته في زمن مشدوه بكشف الحقائق وسقوط الأقنعة.
صاروخ سعودي بـ “سيفين ونخلة” يحمل الجنسية الأمريكية رصد الحافلة وهي تشق عباب النهار، وانتظر وصولها إلى وسط سوق شعبي مكتظ بزحام المدنيين ليفرغ حمولة الموت البشعة بكل صلف، وينهي الفصل الأخير من رحلة الصغار في يوم دامٍ كان مسك ختامه أكثر من خمسين شهيداً توزعوا بين جسدٍ متفحم هناك؛ وكومة أشلاء هنا تحكي ملامح ملاك مغدور.
لم يكن هؤلاء الأطفال يعلمون أنهم باتوا خطراً حقيقياً على السفاحين، وأن استخبارات الموت تلاحقهم وترصد تحركاتهم بدقة متناهية، وتدوّن عملية استهدافهم في سجلات انتصاراتها الدموية الغارقة في الجرم، فهم -حسب ناطق العدوان- من يطلقون الصواريخ الباليستية على مدن الشقيقة الكبرى وهم من يخططون ويرصدون الأهداف، ويحشدون للجبهات وينفذون الاقتحامات، فكيف لا يكونون وجبة كاملة الدسم تستدعي الالتهام، وكيف لا يكون استهدافهم ضرورياً في إطار الحق المشروع المتطابق مع المعايير الإنسانية والقانونية التي يستثنى منها اليمنيون، هكذا أطل ناطقهم ليتلو اعترافاً أرعناً أكثر قبحاً وبشاعة من الجريمة نفسها، وتبريراً سخيفاً وواهناً يفنّده مسرح الجريمة وتدحضه أسرّة المستشفيات وثلاجات الموتى، ولو لم يسارع العدوان بالاعتراف المبكر لوجدنا مئات الأبواق من المبررين والمضللين ينسبون الجريمة لليمنيين ويلصقونها بمجاهديهم الأبطال، تماماً كما حصل في مجزرة الحديدة الأخيرة.
تدرك الرياض أن تخندقها خلف المقدسات لم يعد مجدياً، وأنها بفكرها العقائدي المزيف باتت تشغل كل مساحات الكره والمقت في قلوب اليمنيين، وعليها أن تستوعب بحقدها الأسود أنها لن تكون مقبولة في حياة الجيل القادم الذي يقاسمها الحدود والتضاريس، خصوصاً وهو ينهل من ثقافة قرآنية نقية تفضح ثقافتها المغلوطة المعشعشة تحت عقالات علماء سلطتها، ويصدح بالموت لأسيادها وأولياء نعمتها ويجعل بوصلة الحرب نحو واشنطن وتل أبيب رغم تداخل الأدوات وتشابك الأدوار، فكيف لا ينتابها كل هذا الخوف من القناعات اليمنية الراسخة في وجدان النشء، والقيم المحمدية الطاهرة التي تحرم وتجرم موالاة اليهود والنصارى وتضع من يوالونهم في خندق العداء والمقاطعة والاستهداف، وكيف لا تصب حمم حقدها وصلفها على رؤوس اليمنيين، ولو كان بوسعها اجتثاثهم لفعلت دون تريث، أمام صمت العالم وسباته العميق وانحيازه لجرائمها وتفهمه لتخوفاتها التي تنسجم وتتواءم مع تخوفاته وتوجساته رغم اداناته الخجولة المساوية بين الجلاد والضحية، وهو نفسه منطق الأمم المتحدة التي أدانت عبر أمينها العام الغارات الجوية التي قام بها تحالف العدوان داعية إلى إجراء تحقيق فوري ومستقل في هذا الحادث الذي راح ضحيته العشرات ومجددة دعوتها جميع الأطراف إلى احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، لا سيما القواعد الأساسية للتمييز والتناسبية والاحترازات في الهجوم، ومهيبة بالحرص على تجنّيب المدنيين والممتلكات المدنية عند القيام بعمليات عسكرية. ولا غرابة في هذا الازدواج الأممي وتجاهله للتفريق بين المعتدي والمعتدى عليه، فهو من يقيم الدنيا ولا يقعدها عند احتجاز طفل هنا أو هناك ويعد ذلك انتهاكاً خطيراً لحقوق الطفولة، لكنه لم يتحرك إزاء مقتل 50 طفلاً يمنياً ذهبوا للتعليم في شهرٍ حرام، وهو بتناقضه في الموقف يبرهن كيف أن القاتل بامتلاكه للمال يخرس أفواه الضمائر، وكيف أننا نعيش في عالم لا يحترم سوى القوة والمال.
اليوم يصرخ اليمنيون في وجه أولئك المتشدقين بالإنسانية وحقوقها: تعالوا وأنقذوا بقايا حقائبكم التي تحمل شعاراتكم، أما نحن فيكفينا رشقكم بسهام الليل في حضرة رب المظلومين