الخلود في بطن الشاعر..
بقلم/هاشم احمد شرف الدين
من أوائل الدروس التي تعلمها البشر في هذه الدنيا أنه لا مجال لخلود بشري على هذه الأرض، فقد أدرك جميع البشر ذلك والذين هم “أسرة آدم” عليه السلام الصغيرة مع معايشتهم لحالة الوفاة البشرية الأولى التي كان ضحيتها هابيل بن آدم.
ثم حمل الرسل والأنبياء كتب الله لتؤكد أيضا على هذه الحقيقة، بالحديث عن أن لا خالد ولا باقي إلا الله، له الدوام وله البقاء، لا بداية له ولا نهاية، وعن أنه لا خلود بشريا إلا في الحياة الأخرى، حيث الداران الموصوفتان بالخلد، الجنة والنار..
ولهذا فلم يختلف البشر على أن لفظ خلود لا يعني بأي حال من الأحوال خلودا بدنيا جسديا للإنسان، وإنما يعني خلودا معنويا له، من قبيل دوام ذكره على مر الدهور.
ولهذا يقال خلَّده التَّاريخُ أي أبقاه وأدامه رغم موته، لأنه لم يخلد بدنه وإنما اسمَه.
وشبيه بهذا القول الأقوال: خلَّدته مؤلفاته العلميَّة، أو قصائده الشعرية، أو اختراعاته العلمية.
ويقال تَخْلِيدُ ذِكْرَى عِيدِ الاسْتِقْلالِ والمقصود إِحْيَاء قيمتها المعنوية لِتَبْقَى خَالِدَةً في الحاضر والمستقبل.
ويقول الجاحظ: “فَحَمَلَنِي الكَلَفُ وَالْمَوَدَّةُ لَهُمْ وَالسُّرُورُ بِتَخْلِيدِ فَخْرِهِمْ وَتَشْييدِ ذِكْرِهِمْ”، بمعنى أنه يخلَّد ذِكراهم بجعل ذكراهم قائمة بالأذهان وليس أبدانهم، فهم أموات.
ولأن البشر يفهمون بوضوح دلالات استخدام لفظ الخلود أو المصدر خلد وما يتفرع منه، فقد كان الشعراء أكثر البشر توظيفا لهذا اللفظ في مراثيهم لمن يتوفاهم الله، مواسين أنفسهم وذوي المتوفى ومحبيه بالقول إنه سيظل حيا يعيش خالدا بينهم رغم موته.
فعلى سبيل المثال فقد رثى الشاعر العملاق “محمد مهدي الجواهري” الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في الذكرى السنوية الأولى لوفاته بقصيدة ابتدأها بالأبيات الآتية:
أكبرتُ يومَكَ أن يكون رثاء
الخالدون عهدتُهم أحياءَ
أَوَ يرزقون؟ أجلْ، وهذا رزقهم
صنو الخلود وجاهةً وثراءَ
قالوا الحياة فقلت دينُ يُقتضَى
والموتُ قيلَ فقلتُ كان وفاءَ
وقال الشاعر الكبير جبران خليل جبران يرثي صديقا مسيحيا له:
بلغت أقصى العمر الفاني
عش خالدا في العالم الثاني
خطبك ليس الخطب تعلو به
رنات أشجان وأحزان
وقال الشاعر الكبير السيد مرتضى القزويني في قصيدة رثى بها الإمام الحسين عليه السلام:
دون المبادئ قد فديت وجودا
ورميت رمياً في الصلاح سديدا
عش خالدا فالبيض في صفحاتها
كتبت لذكرك يا حسين خلودا
وهذا شاعر فلسطيني يقول في قصيدة له في ذكرى استشهاد الشيخ الشهيد أحمد ياسين:
ياسينْ .. والوجعُ الدفين
أقسمتُ أنّك لن تموت فأنتَ روحُ الخالدين
وبنيتَ من عطش الجهادِ بصرحكِ العالي مَعين
عِش .. أنتَ كل الثائرين
عِش .. يا مَعين الظامئين
عِش ..لا يموتُ الوعيُ ..
يحيا خالداً مرّ السنين..
ولم يحدث – على حد علمي أو بحسب تصوري – أن أقدم أحد الشعراء على أن يمتدح شخصا ما زال حيا يرزق بمخاطبته قائلا “عش خالدا”، وإنما يقول عش كريما عزيزا قويا صابرا شريفا، أي يقول له استمر على هذا المنوال متحليا بهذه الصفة أو تلك، أما “خالدا” فليست بصفة، فضلا عن استحالة أن يكون بمقدور الممدوح تنفيذها فلا خالد إلا الله تعالى.
ولهذا فقد استغربت جدا أن يغيب عن شاعر يمني كبير إدراك دلالات توظيف لفظ الخلود في النص الشعري تحديدا، وأن يعبر بمقالة كتبها تحت عنوان “هيا بنا نضحك” عن امتعاضه وسخريته ممن حاول تنبيهه لذلك، وزاد من استغرابي التعليل بالغيرة على اللغة!.
ولكي لا نطيل فنحيل الشاعر المبدع إلى نص تعزيته بمناسبة وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر قبل عشر سنوات ونصف وهو يتحدث عن الذين خلدوا في سجلات النضال اليمني ممن قد توفاهم الله، في مقالة حملت عنوان “في وداع من ورثت صداقة ابنائه”.
ونختم بهذا السؤال: ترى من هو الشخص الحي الذي قصده الشاعر بالمديح بقوله “عش خالدا”؟.
وعند الإجابة سيكون للضحك بقية.