محمد حسن الحسني
إن الكلام عن التعايش أو العلاقات المذهبية بين المسلمين ليس ضربا من الافتراضات أو الخيال أو تصور واقع غير موجود أو موهوم ولكن ما حصل بين المسلمين من تعايش على مر العصور وعلى تعدد المشارب والأفكار كان نموذجا جيدا، يحسن الإشادة به، ويبعث في القلوب مسالك الأمان، وطرق الأمل، واليقين بأن الأمة في خير، وأن الاختلاف سبيل من سبل التعايش والتآخي.
إن النظرة المجردة لتعدد الأفكار والأنظار والتوجهات العامة والخاصة في مناحي الحياة تجلب الشتات والفرقة والخصوبة لا سيما إن شيدت بقوانين قواعد متينة للتعايش والبقاء تخلو عنها كل المذاهب والتيارات الوضعية وتتميز، ومن فقد الثقافة الإسلامية في تأصيله وتفريعه بعدت بينه وبين الألفة والتعايش والتآخي المسافات.
ومن أمعن النظر في التاريخ يجد أن معظم الأفكار والمذاهب الوضعية لا تقوم ولا تعيش إلا على أنقاض الأخرى، ودونك الاشتراكية التي من أسسها الصراع الطبقي وأنه لا حياة دون صراع، وغيرها من المذاهب الوضعية، لكن هذا الأمر لم يكن بين المذاهب الإسلامية مع كثرتها، وطول تاريخها، وإن وجد فلا يعد من أسس هذه المذاهب الإسلامية، ويحسب على متبنيه لا على المذهب والإسلام هو اجتزاء لمسائل خاصة من مذهب معين سخرت وطوعت لخدمة خاصة..
والناظر في تاريخ المسلمين بعيداً عن سوابق الأهواء يجد أن حروب المذاهب لم تحصل إلا نزرا، ولم تأخذ مذهبية بعمومها وإنما استخدمت المذاهب لصالح من أراد تطويعها، وكانت هذه المآرب منذ الخروج على إمامة الإمام علي عليه السلام حيث استخدمت فيها شعارات دينية معينة لتسويغ الخروج فما إن تغيرت الأمور وتحقق ما رسمه الخصوم وآل الحكم إليهم دون قيود قال مقدمهم والداعي لهذا الخروج فقال: “ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا وقد أعرف أنكم تفعلون ذلك ولكن إنما قاتلتكم لأتأمرّ عليكم فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون أنظر: مصنف أبن أبي شيبة “رقم 31197” بتحقيق عوامة.
وهكذا ما حصل بعد ذلك من استجلاب بعض النصوص الدينية من الحكام واستغلال بعض المتصدرين من علماء المذاهب الإسلامية لم تكن للمذهبية فيها وضوح أو تأييد وإنما كان تأييد من بعض العلماء في مسائل معينة طوعها الحاكم مع بعض مريدي بلاطه، ومن أراد العيش على فتاته في التحكم والتأمر على من يقف أمامهم وتمكين البقاء على كرسي الحكم وتسليط السيف على رقاب الخلق وهو ظاهر فيما حصل في مسألة خلق القرآن حينما استغلها بعض ملوك بني العباس في تصفية خصوم لهم وسجنهم وتثبيت قواعد حكمهم وما حصل في قضاة الأخناف من محاولة إلغاء المذهب المالكي والشافعي في مصر إرضاء للملوك أنظر بعض هذه التصرفات في “رفع الإصر” لابن حجر العسقلاني، وأخبارهم أكثر من أن تحصر.
وكذلك ما حصل فيما بعد من تصرفات الوزير الكندري في خراسان والتي كان من بين آفاتها أن الشافعية منعوا من صلاة الجمعة والجماعة ومنعوهم من الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ولعن أئمتهم على المنابر.. في فتنة يطول الكلام عنها وأنظر: “البداية والنهاية” لإبن كثير “12/ 83″ و”الكامل في التاريخ” لإبن الأثير “7/ 113″.
وما حصل من أعمال صلاح الدين الأيوبي في مصر حين قضى على الدولة الفاطمية بعد أن كان عاملا معهم، وانظر بعض أخباره في:” اتعاظ الحفناء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء”(3/ 347).
وما حصل في المغرب من قتل الأدارسة ووقعة قلعة النسر بالتحديد من العاق موسى بن أبي العافية، حين ألغى دولة الأدارسة وأعمل فيهم النهب والقتل، وانظر: هذه العظائم في “جذوة الاقتباس” و “المسالك والممالك”.
وكذلك ما حصل في التاريخ القريب من الفكر الوهابي النجدي من محاولة إقصاء الخصوم وقتلهم وهدم قبور أئمتهم، وقد دونها الوهابية أنفسهم وانظر: “عنوان المجد” وسواه، وباقي المواقف التي تحمل في مظهرها طابع المذهبية، والتاريخ ملئ بمثل هذه التصرفات، سواء في اليمن أو سواه.
وليس الكلام هنا من أجل غمط قوم ورفع آخرين، أو النظر في نقاط مظلمة في صفحة بيضاء، واستصحابها للحكم على سائر الصفحات، لكن لصرف النظر وإبعاده عن من يريد أن يشق عصى المذهبين في اليمن، بالبحث عن تصرفات نادرة حصلت في ظروف معينة لا يخلو منها مذهب من المذاهب الإسلامية، بيد أن الفارق كبير بين من كانت تصرفاته مبنية على الإمام العالم المتوفرة فيه شروط الإمامة العظمى، المنصوص عليها عند كل المذاهب الإسلامية، وبين الحاكم المتسلط والجاهل، فعْرف تُرشد.
عود بعد انعطاف؛ أقول: يمكننا أن نقسم العلاقة بين المذهبين الزيدي والمذهب الشافعي إلى علاقة إيجابية وهي الغالب وعلاقة سلبية وهي قليلة ولا تخلو من ملاحظات تدفع هذه السلبية إلى حد كبير.
أولاً: العلاقة الإيجابية
كانت بداية هذه العلاقة بين المذهبين السني والزيدي قديمة خصوصاً العلاقة بين الشافعية والزيدية على وجه الخصوص، فكانت النقطة الأولى المضيئة لهذه العلاقة هي تلقي الإمام الشافعي العلم على أكابر علماء آل البيت النبوي الزيدية في اليمن، وصلته الوثيقة والقوية بهؤلاء الأعلام، فتلقى على يدي الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وتزوج بيمنية. انظر: “أخبار فخ” (71ص.72″.
وبايع الإمام الشافعي الإمام يحيى بن عبدالله، وذكر ابن العماد في “شذرات الذهب”(2 / 437): “وقال ابن الأهدل وفي إمرة الرشيد وأخية الهادي ثم قام يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنى وبث دعاته في الأرض وبايعه كثيرون من أهل الحرمين واليمن ومصر والعراقيين وبايعه من العلماء محمد بن إدريس الشافعي، وعبدربه بن علقمة وسليما بن جرير”.
وعمل الإمام الشافعي عند الإمام يحيى بن عبدالله، ففي “مناقب الشافعي” للبيهقي”(1/ 106) ما نصه: “قدم وال على اليمن فكلمه بعض القرشيين أن أصحبه، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتحمل فرهنت داراً.. فلما قدمنا إلى اليمن استحملني على عمل فحمدت فيه فزاد على عملي”.
وقال ابن كثير في “البداية والنهاية” (10/ 275) روى ابن أبي حاتم عن أبي بشر الدولابي، عن محمد بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن.
وأما تأدب الشافعي وميله لآل البيت فشواهده كثيرة، فقد فقام ابن النديم في “الفهرست”(259): “عن الربيع بن سليمان، الشافعي قال: كتبت عن محمد وقر جمل كتبا، وكان الشافعي شديدا في التشيع وذكر له رجل يوما مسألة فأجاب فيها فقال: له خالفت علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- فقال له: اثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدي على التراب، وأقول: قد أخطأت وارجع عن قولي، إلى قوله: وحضر ذات يوم مجلساً فيه بعض الطالبيين فقال: لا أتكلم في مجلس بحضرة احدهم هم أحق بالكلام ولهم الرياسة والفضل..
قلت: ولم تكن هناك رئاسة لآل البيت حضرها الشافعي سوى رئاسة الإمام يحيى بن عبدالله الذي سبق الإشارة إلى أنه بايعه.
هذا وقد اتهم الإمام الشافعي من بعض العلماء وحمل مقيداً للعراق مقر الدولة العباسية بتهمة الانتماء لآل البيت وموالاتهم.
وقد نسبت إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه أبيات مدوية في حب آل البيت وتعظيمهم سارت الركبان بهذه الأبيات الناصعة في سواد التاريخ .
يا آل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن أنزله.
يكفيكم من عظيم الذكر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له.