خليل المعلمي
إن الشروع في البحث عن تراثنا الفني «نغماً وايقاعاً» بألوانه المختلفة وكذلك جمعه وتحليله والعمل على توثيقه بالنوتة الموسيقية له أهمية كبيرة خاصة في ظل قلة الاهتمام من قبل الجهات المعنية بذلك.. ويشكل هذا التوثيق تواصل بين الأجيال الحاضرة والماضية وجيل المستقبل.
ويحاول مؤلف كتاب «من الغناء اليمني- قراءة موسيقية» عبدالقادر قائد وهو محاضر لمادة النظريات الموسيقية العامة في معهد جميل غانم للفنون الجميلة في عدنا منذ حصل على الماجستير 1982م، يحاول تدوين القليل من الألحان اليمنية كما يقول هو ذلك وهذه الألحان التي قام بتدوينها هي من الألحان التقليدية والشعبية التجديدة ومن تلك التي اشتهرت في الخمسينيات والستينيات ولاقت رواجاً منقطع النظير على مستوى الوطن والمنطقة المجاروة.
وسنستعرض محتويات الكتاب والتي لاشك أنها غنية وزاخرة بما تحتويه من تراث فني وثقافي، حيث قسم الكتاب إلى أربعة أبواب تضمنت الأغنية الصنعانية والغناء الحضرمي واللحجي واليافعي:
الأغنية الصنعانية
للأغنية الصنعانية مكانتها لدى الأدباء والفنانين والمطربين فمنذ بداية القرن العشرين تعرّف الكثير من المطربين في عدن ولحج وحضرموت على الأغنية الصنعانية عن طريق من كان يهاجر من صنعاء وتعز إلى مدينة عدن إبان الاستعمار الانجليزي، وكان لهذا اللون من الغناء اليمني دور في صقل مواهبهم واكسابهم ثقافة فنية متعددة وقد خصص المؤلف الباب الأول من الكتاب بالحديث عن الأغنية الصنعانية حيث وصفها بـ»الموشح الغنائي اليمني» وكذلك عن مميزاتها فيقول: أن ألحان الموشح الغنائي اليمني المعروف بالأغنية الصنعانية تختلف عن سائر الألحان التراثية في البلاد العربية جميعا ً.. ذلك أن تراكيبها الموسيقية المكونة لجملها اللحنية المبنية على موازين إيقاعية لرقصات شعبية ومقامات موسيقية بنفحة محلية تنفرد بها اليمن دون غيرها، جعلت منها ألحاناً مميزة راقية المستوى وأضفت عليها نكهة يمنية خاصة.
ومن مميزات الأغنية الصنعانية التي ذكرها المؤلف أنها تبدأ بما يسمى «الفرتاش» وهو نوع خاص من التقاسيم تنفرد بها الموسيقى اليمنية الصنعانية ويعتبر أيضاً مقدمة يبدأ بها المطرب وصلته الغنائية، ويضيف أيضاً أن الفرتاش أشبه ما يكون بقطعة موسيقية متكاملة ذات قواعد وجمل لحنية مرتبة لايجوز تقديم جملة عن الأخرى، وتشبه تقاسيم الفرتاش في مداتها ونبراتها وطابعها وأسلوبها، ترانيم البلبلة والملالاه والدندنة.
ومن المميزات التي أضافها المؤلف أيضاً أنها غالباً ما تبدأ بلحن بطيء وقور يغلب عليه المط، وكذلك نجدها في المدى المحدود من الأنغام الموسيقية التي يمكن أن يعزف بها اللحن على العود ويمكن استنتاج ذلك أن معظم الأغاني الصنعانية إن لم نقل جميعها من الممكن عزفها على الأوتار الثلاثة الأولى للعود في مدى إحدى عشر نغمة من الأنغام الخمسة عشر التي يمكن الحصول عليها عادة من الاوكتافين في العود ذي الخمسة الأوتار، لذلك كان العود المحلي الصنع ذو الأوتار الأربعة يكفي لأداء هذه الأغاني.
ويعرفنا المؤلف عن آلة العود التي كانت تستخدم في العزف في الأغاني الصنعانية «القنبوس» وهي آلة من النحاس تشبه الدف في شكلها إضافة إلى الصحن وطبلاً يدوياً صغيراً اسمه المرواس ولم يدخل التجديد على آلة الطرب المستعملة في الموسيقى الصنعانية إلا في الأيام الأخيرة.. حيث يظهر هذا التجديد في الاستعاضة عن العود ذي الأوتار الأربعة والبطن المغشاة بالخشب وعن الصحن بالدف وعن المرواس بالدريوكة وقد تضاف الكمنجة أحياناً إلى هذه الآلات الجديدة.
واستعرض المؤلف العديد من الميزات الأخرى مثل إضافة بعض الكلمات إلى أول البيت وإضافة كلمات الدندنة والبلبلة وغيرها.
ونلاحظ جهد المؤلف المبذول في إعداد وتجميع بعض النوتات الموسيقية لكثير من القصائد الصنعانية والتي تم التغني بها من قبل كبار الفنانين وأساطين الطرب سواء في صنعاء أو في عدن ولحج وحضرموت.. واستعرض أيضاً السير الخاصة بهم.
من الغناء الحضرمي
خصص المؤلف الباب الثاني من الكتاب للأغنية الحضرمية فقد استعرض المؤلف في هذا الباب أساطين الفن في حضرموت ومنهم محمد جمعة خان والذي يعتبر صاحب المدرسة التجديدية في الأغنية الحضرمية، فقد التحق بالفرقة السلطانية في العام 1918م وأبدع فيها ورقي فيها حتى أصبح قائدها بعد ذلك أدخل علىٰ الفرقة الموسيقى العربية وبعض الألحان الشعبية الحضرمية.
ومن المطربين أيضاً سعيد عوض كاوره الذي رافق المستشرق السويدي لاندبرج إلى مصر وألمانيا حيث أفاد الأخير في دراسة اللهجة الحضرمية.. وكذلك المطرب سلطان بن الشيخ علي آل هرهرة وهو يعتبر من المطربين المميزين في حضرموت حيث يعتبر أول من أدخل العزف على آلة «القمبوس» في حضرموت التي أخرج من نغمات أوتارها ألحاناً حضرمية بديعة الوحي الملهم لمن جاء بعده من الفنانين، ويصف من استمعوا لأدائه وأغانيه بأنه كان فلتة من فلتات الطبيعة وعبقرية نادرة لا تتناسب مع مستوى العصر الذي عاش فيه.
أما يسلم عبدالله دحى والذي يتمتع بجمال الصوت والإجادة في الإلقاء للقصائد والمقطوعات الشعرية.. إضافة إلى شهرته في إجادة الأغاني البدوية والقروية كأغاني رقصة الحفة الساحلية (هبيش) وأغاني رقصة الدحيفة الدوعنية.. وكذلك أبوبكر سالم بالفقيه وغيرهم ممن أثروا الأغنية الحضرمية واعتمدوا في أخذ القصائدعلى المكتبة السلطانية بالمكلا.
مستعرضاً العديد من القصائد الرائعة مع النوتات الموسيقية الخاصة بها والتي تغنى بها هؤلاء المطربين وعملوا على حفظ الدان الحضرمي الذي اشتهرت به حضرموت خاصة في مدينتي سيئون وتريم ومن ثم امتد إلى جميع مناطق حضرموت.
الغناء في لحج
وفي الباب الثالث من الكتاب أشار المؤلف إلى النهضة الفنية في لحج وبانيها الأمير أحمد فضل بن علي العبدلي الملقب «القمندان» الذي أدرك بحسه المرهف أنه أمام فن أصيل يجب العمل على جمعه وحفظه وتأصيله فكرس حياته لتحقيق هذا الهدف وساعده على ذلك ظهور آلة «الفونوغراف» أو صندوق الطرب أو كما يطلق عليه بـ»القمبوس» فقام بعملية التجديد والتطوير للأغنية اللحجية.
ويقول المؤلف: لقد كان لـ»القمندان» دور في تطوير الأغنية اللحجية بالرغم من مكانته الاجتماعية فقد اختلط بالفلاحين وبالناس وكان دائماً مايدعوهم إلى منتداه الثقافي يتبادل معهم الأشعار والقصائد خاصة منهم الشعراء والمطربون وغيرهم.. وأضاف إلى كل ذلك أنواع الرقصات التي كانت تؤدى أثناء إلقاء تلك الأغاني.. كما استعرض العديد من الأغاني اللحجية المشهورة ومنها أغاني القمندان مع الشرح الوافي للنوتات الموسيقية المرافقة لها.
وعند الحديث عن الأغنية اللحجية فلابد من ذكر الفنان فضل محمد اللحجي الذي يقول عنه المؤلف أنه إضافة إلى كونه مطرباً لاقى التشجيع من والده فكان له إسهامات في النهضة المسرحية في لحج حيث كان أحد أعضاء الفرقة المسرحية في لحج.
وأول مسرحية ظهر فيها كما وثقها المؤلف، وقد ظهر مطرباً وممثلاً هي مسرحية «في سبيل التاج».. مشيراً إلى العلاقة التي كانت موجودة بين فضل محمد اللحجي والقمندان إلى درجة أن موت القمندان أثرت تأثيراً كبيراً على فضل اللحجي فقد ظل حزيناً وباكياً على صديقه ومعلمه وكان له مشاركات فيما بعد مع الفرق الموسيقية التي كانت تقام في تلك الفترة والتي كانت تقوم بإحياء العديد من الحفلات الموسيقية، واستعرض المؤلف العديد من القصائد الجميلة والرائعة والتي لازالت ألحاناً جارية إلى يومنا هذا يرددها المطربين الشباب، ومعظم تلك القصائد للقمندان.
الغناء اليافعي
وفي الجزء الرابع والأخير من الكتاب خصصه المؤلف للغناء اليافعي والذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى منطقة يافع والمعروفة بحدة إيقاع أغانيها وخفتها حيث أن معظم الألحان اليمنية اليافعية مبنية على إيقاع رقصة البرع المعروفة بخفة الحركة كما يذكر المؤلف.
ويقول المؤلف: وإذا عدنا إلى صانع تلك الألحان نجد أن مؤشرات التاريخ تتجه إلى الشاعر والملحن والمغني المطرب يحيى عمر اليافعي ولقبه (أبو معجب) وهو شاعر شعبي ذو شهرة واسعة في اليمن والجزيرة العربية، تنقل بين يافع وحضرموت قضى فترة من حياته في صنعاء ثم هاجر إلى الهند واستقر فيها وقد عاش في القرن الحادي عشر الهجري وبعض قصائده تغنى إلى اليوم حيث سجل له الكثير من الفنانين أمثال الفنان سيد محمد اليمني وعوض عبدالله المسلمي.. مستعرضاً العديد من قصائده وقصائد أخرى لعديد من الشعراء المجهولين والمعلومين مع النوتات الموسيقية الخاصة بهذه القصائد.
Next Post
قد يعجبك ايضا