تكثّف العديد من الدول الغربيّة، منذ فترة ليست بقصيرة، مساعيها في استهداف الداخل الإيراني. حيث تخوض هذه الدول أشبه ما يكون بالمواجهة الشاملة التي لا تقتصر على المواجهة خارج الحدود الإيرانية، بل تستهدف الجبهة الداخلية وبأساليب متعدّدة.
أدرك الجميع سابقاً زيف الادعاءات الغربية بالأغراض العسكرية للبرنامج النووي الإيراني، وبالفعل وقّعت إيران على الاتفاق مع الدول الخمس مع علمها المسبق أن المسألة أبعد من ذلك. التزمت طهران بحذافير الاتفاق، كما ورد في كل تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حين لم تلتزم واشنطن ببنوده، وبدأت بالالتفاف والحديث عن اتفاق صاروخي وإطلاق تهم بالإرهاب، فضلاً عن الوجود الإيراني في المنطقة، وهو ما ردّ عليه قائد الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة السيد علي الخامنئي مؤخراً بالقول: “نرفض الدخول في مفاوضات مع أمريكا أو غيرها بشأن الوجود الإيراني بالمنطقة فهذه منطقتنا”.
لا تعدّ مسألة الحضور الإيراني في الشرق الأوسط مسألة مستحدثة للجانب الغربي والعديد من الدول العربيّة، بل بدأت منذ ظهور مصطلح “الهلال الشيعي” على لسان الملك الأردني عبد الله بن عبد العزيز عام 2004، ولكن منذ ذلك الحين حتّى يومنا هذا نرى معارضة بعض الدول العربية وانتقاد الدول الغربية في تزايد مرتفع.
ولكن خلال الفترة الماضية، ومع أفول نجم داعش الإرهابي، دخلت القوى الغربية في استراتيجية قديمة جديدة لمواجهة “النفوذ الإيراني”، وفق تعبيرهم تتلخّص في نقل المعركة إلى الداخل الإيراني وإشغال طهران عن الحضور في الإقليم، وهو الكلام الذي ظهر على لسان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في مايو الماضي، قائلاً حينها إن بلاده تقف بحزم في وجه “نزعة إيران التوسعية”، وفق زعمه.
بصرف النظر عن كون كلام بن سلمان استراتيجية سعوديّة أم انخراطاً في مشروع غربي ضدّ إيران، وهو ما نرجّحه، يبدو أن هناك توجّهاً لإشغال إيران بالملفات الداخليّة عبر استثمار بعض القضايا الاجتماعيّة وتحويلها إلى أزمات أمنية.
إن التطوّرات الداخلية التي شهدتها إيران أخيراً، بدءاً من أعمال شغب قامت بها فرقة من الدراويش في العاصمة طهران وليس انتهاءً بالتعدّي على مبنى السفارة في لندن من قبل التيار الشيرازي، وما بينهما من تظاهرات مخلّة بالأمن، تستدعي الإشارة إلى جملة من القضايا والتي برزت خلال الأشهر الماضيّة تحرّكات غربية واضحة لإثارة العديد من القضايا الاجتماعية (الحجاب، الوضع الاقتصادي، الدراويش والتيار الشيرازي)، وتحويلها إلى أزمة أمنيّة. التحرّكات الغربية في استهداف الساحة الإيرانيّة على الصعيدين الاجتماعي والأمني لم تقتصر على الأمور الآنفة الذكر، بل هناك محاولة لإحياء سياسة “فرّق تسد” البريطانيّة عبر اللعب على وتر الأقليات القوميّة والعرقية والدينية بشقّين رئيسيين الأول إعلامي تقوده هيئة الإذاعة البريطانية، والثاني أمني عبر أجهزة الاستخبارات.
فيما يأتي الاعتداء على السفارة الإيرانية في لندن أمس الأول من أتباع التيار الشيرازي، يبدو جليّاً وجود محاولات حثيثة لتدويل القضايا الاجتماعيّة الإيرانية وتحويلها إلى أزمة أمنيّة بغية إشغال وإشعال إيران من الداخل. المسألة التي بدأت باستدعاء أحد المعممين من قبل المحكمة المختصة برجال الدين، وإحضاره لاحقاً إلى القضاء بسبب مخالفته للقانون وتمنّعه عن الحضور، تحوّلت إلى قضيّة دبلوماسيّة بين دولتين، واللافت أن أحد هذه الدول هي الراعي الرسمي للتيار الشيرازي في العالم. رغم وجود محاكم مختصّة برجال الدين في إيران، إلا أن القانون لم يعطهم أي حصانة تحول دون محاكمتهم في حال ارتكاب أي انتهاك للقوانين.
وكان لبريطانيا أهداف في السماح لأتباع التيار الشيرازي بالهجوم على السفارة، وعدم حضور شرطة الشغب وقت الاعتداء، أي تضخيم حجم المسألة وحثّ أتباع التيار الشيرازي على استخدام الأسلوب نفسه في أماكن وجودهم ومن ضمنها إيران. ساهمت بريطانيا من خلال الاعتداء الدبلوماسي في تضخيم حجم هذا التيار المنبوذ من أغلب المراجع الشيعية كونه يعمل ليل نهار على إيجاد الفتنة بين المسلمين، من خلال مهاجمة الثورة الإسلاميّة وولاية الفقيه فضلاً عن إهانة المذهب الشيعي عبر بعض التصرّفات التي تتنافى مع المبادئ الإسلاميّة كالتطبير وغيرها.
لا شكّ أن الحكومة البريطانية هي المسؤول الأبرز عن الحادث وعليها أن تتحمّل مسؤوليتها حيال السفارات والدبلوماسيين. في الحقيقة، ليست هذه هي المرّة الأولى التي تسهّل أجهزة الاستخبارات البريطانية التعدّي على السفارة الإيرانيّة في بريطانيا، بل عمدت سابقاً إلى السيناريو ذاته مع منافقي خلق، لكنّها فشلت في تحقيق أهدافها وأهداف المهاجمين. وما حصل بالأمس لا يخلو من أمرين إمّا ضعف أمني في لندن أكثر مناطق العالم التي تحتوي على كاميرات مراقبة (1.8 مليون كاميرا مراقبة أي بمعدل كاميرا لكل شخص) أم هناك تواطؤ مع المهاجمين، ولاسيّما أن قوات مكافحة الشغب قد تأخّرت ساعتين للحضور إلى المكان.
العلاقة قويّة بين التيار الشيرازي وبريطانيا لدرجة دفعت بياسر الحبيب أحد أعمدة التيار الشيرازي في لندن، صهر مجتبى الشيرازي أخ المرجع السيد صادق الشيرازي، للدعاء بأن تكون ملكة بريطانية من آل البيت، وهجوم الأمس على السفارة أكّد حجم الارتباط والعلاقة بين التيار الشيرازي والحكومة البريطانيّة، وكيف تقدّم الحكومة الدعم لهذا التيار مقابل إيفاء الأخير لدور “حصان طروادة” في مشروع تفتيت المنطقة وتناحرها. كذلك، حاولت الحكومة البريطانية بالأمس من خلال الهجوم إبعاد الأنظار عن الاتهامات التي تعرّضت لها بسبب استقبال ولي العهد السعودي ومشاركتها في العدوان على اليمن.
لا يختلف اثنان على الحنكة والدهاء البريطاني، ولاسيّما أن بريطانيا تمتلك باعاً طويلاً في النعرات والحروب الطائفية والعرقيّة، ولكن لا ندري لماذا تلجأ إلى هذا الأسلوب مجدداً مع إيران عبر التيار الشيرازي، رغم أنّها عمدت إلى الأسلوب ذاته مع منافقي خلق، الذين هم أكثر عدائيةً وتسليحاً، إلا أنّها لم تحقّق أي نتيجة.