نجل الشهيد عبدالقادر هلال: كانت وصية والدي أنه إذا استشهد لا نقيم له جنازة رسمية وأن يصلى عليه في الجامع الكبير بصنعاء
مصطفى المنتصر
فاضت روحه البريئة إلى بارئها وترجل شهيدا شامخا كما عرفه الجميع, نتيجة غارات عدوانية غاشمة على الصالة الكبرى بالعاصمة صنعاء ذهب ضحيتها 800 شهيد وجريح يتقدمهم اللواء عبدالقادر هلال.
عبدالقادر هلال رجل الدولة والسلام استمال قلوب الجميع بشخصيته القوية وإدارته الناجحة واستطاع ان يعزز العلاقة بين الجميع بمختلف انتماءاتهم بل انه كان الهلال الذي يتطلع إليه اليمنيون عندما تحل عليهم مأساة.
تفاصيل يرويها نجل الشهيد حسين عبدالقادر هلال عن والده واللحظات الأخيرة التي عاشها الشهيد في هذه السطور.. إلى التفاصيل:
صباح الـ8 من أكتوبر 2016م خرج الشهيد اللواء / عبدالقادر هلال إلى حوش منزله لانتظار احد الأشخاص القادمين إليه حينها جلس برفقة حراسته الأمنية وكان يتجول معهم في حوش المنزل ويبادلهم الأحاديث وكان يسألهم عن أحوالهم وأوضاعهم الشخصية ضحكوا وتمازحوا وكانت الابتسامة لا تفارق محياه , تأخر الموعد الذي كان ينتظره الشهيد حتى أن أفراد حراسته خافوا من أن يعكر هذا التأخير صفوة الجو الذي كانوا يعيشونه برفقة اللواء مر الوقت وبعد أن انتهى اللواء من تناول الغداء وانطلق لأداء واجب العزاء لرفيقه وزير الداخلية آنذاك ظل اللواء جلال الرويشان طيلة الطريق يمازح من كان برفقته من أفراد الحراسة الشخصية وصل اللواء إلى الصالة الكبرى وجلس في في الجانب العدني الشرقي من القاعة ولأن المرافقين وأفراد حراسته كانوا يعلمون انه سيطول في مقيله ذلك اليوم قرروا وان يدخلوا جميعهم حتى السائق والذي لم يكن يغادر سيارته مهما كان الأمر.
يقول زيد احد أفراد الحراسة الشخصية للواء هلال: كنا حول الشهيد عندما وقع الانفجار الأول ولم أفق منه إلا بعد دقائق وأنا تحت الأنقاض خرجت بصعوبة وبقدرة قادر وبدأت استوعب ماذا حصل. أدركت انه صاروخ طيران العدوان وعندما حاولت ان انهض وجدت قدمي مصابة وبدأت ازحف بين الأشلاء ولم أتعرف على احد.. كلهم تحت الأنقاض وبات من الصعب أن تميز شيئاً في تلك الأجواء المرعبة، الدخان يتصاعد من كل مكان وبات من الصعب التنفس في ذلك الجو، الجميع يصرخ ويئن.
ربطت قدمي بقطعة من القماش وزحفت إلى مكان الشهيد حاولت ارفع الأنقاض من فوق الشهيد بصعوبة تامة لأن التنفس كان صعباً جدا ولم انته من رفع أول ركامه حتى وصل الصاروخ الثاني الذي رفعني الى السماء بارتفاع لا يقل عن 10 أمتار ولا ابالغ إذا قلت 15 متراً لكنني وجدت نفسي أثناء سقوطي من شدة الارتفاع في ثقب كبير يتدافع الناس للخروج منه تمكنت من ذلك المكان ان اقفز إلى البدروم وزحفت بجسمي حتى وصلت البوابة وأخذوني من هناك مباشرة على الإسعاف.
نجل الشهيد حسين عبدالقادر هلال تحدث إلينا عن رحلة البحث عن والده الشهيد والعمليات الفدائية التي نفذها محبو الشهيد رغم المخاطر واستطاعوا التغلب على كل المعوقات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يقول حسين :على وقع الغارة الاولى تدافع محبو الشهيد وأقرباؤه من اغلب مناطق العاصمة والأمانة لإيمانهم المطلق بوجوده بالداخل من وادي الإجبار أو من منطقة بيت بوس أو من وسط صنعاء وحتى من منطقة الروضة ,تمكن البعض منهم من دخول القاعة في اللحظات الأولى بعد الغارات، منهم من حاول ان يدخل من مدخل البدروم المؤدي إلى منصة القاعة وإذا به مليء بالجثث والحطام والركام. ومنهم من استطاع التسلق من نوافذ الصالة الغربية. ومنهم من حاول أن يدخل من البوابة الرئيسية إلا أن الدخان السام وضعف الرؤية جعلهم يخرجون كلما دخلوا ولكن استمر البعض بالمجازفة والدخول وكانوا يشعرون بالاختناق والاعياء حتى أن البعض أغمي عليه من هول الموقف ونتيجة للأدخنة السامة التي كانت تغطي المكان ولم يخفف كل هذا ويسهل لهم المهمة إلا زخات الماء التي كان يرشها رجال الإطفاء عندما وصلوا. كل هذا وهم يجهلون مكان الشهيد.
مشهد في قمة الرعب
جثث مشتعلة وأخرى متفحمة وأشلاء بشرية لم يشاهد مثيل لبشاعتها من قبل, أصوات حديد يتآكل واشتوت بنيرانه أجساد بشرية.. صراخ استغاثة وصياح منقذين وأنين ألم وهلع وطائرات تعاود التحليق من جديد ,كانت أعمدة السقف الحديدية تتساقط من الحريق والأرض تزداد لهباً واشتعالاً من أثاث القاعة وجثث والسيارات التي تحت القاعة تحرق وتتفجر وذخائر المسلحين تتطاير وتنفجر، هول من أهوال يوم القيامة.
كانت مهمة الإنقاذ مغامرة إن لم تكن انتحاراً حتى أن احد المنقذين احتاج للإسعاف كونه قد استنشق كمية كبيرة من الدخان السام.. استمرت عملية البحث دون توقف.. كل يبحث من جهته إلى أن اخرج الله شخصين من بين الأنقاض.
سأل المنقذون احد الأشخاص الذين غادروا القاعة وهو مليء بالدم وينزف من كل جزء في جسده عن مكان الشهيد قال انتهيت من السلام عليه قبل قليل والصاروخ هو الذي باعد بيننا وأشار إلى المكان الذي كانوا فيه، توجهوا إلى المكان المحدد وبدأوا برفع الأنقاض ووجدوا الشهيد النقيب خالد نجل الشيخ علي يحيى الحاضري والشهيد محمد محمود الحاضري والمساعد محمد عبدالله القفري كانوا مغطين على والدي بأجسادهم, يقول حسين : احد المنقذين وهو يصف لي المشهد بقوله “رأيناهم جبالاً عسرة مغطاة بالركام”
تم إسعاف والدي ورفقائه الثلاثة ولا توجد عليهم ملامح الحياة وعند الوصول إلى المستشفيات أكد الأطباء أنهم قد فارقوا الحياة جميعهم، لا أبالغ هنا إن قلت بأن المنقذين كانوا بمثابة فدائيين مثلهم مثل من استشهد وهو مغطي الشهيد بجسده أو إلى جانبه.. بل يعلم الله ان منهم من كان له ابن أو أخ أو قريب من ضمن مرافقي الشهيد إلا أن الشهيد كان شغلهم الشاغل.
ويضيف حسين :كنت على تواصل مع والدي عشية الجريمة حيث طمأنته على مستواي الدراسي ثم تطرقنا في حديثنا على عزاء آل الرويشان , لم اطلب منه عدم الذهاب للعزاء كوني اعرف انه لن يثنيه طلبي عن تقديم واجب العزاء واعلم يقينا انه سيرد رده المعتاد “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.
بسبب فارق التوقيت بين الدولة التي كنت فيها وبلادي اليمن بالإضافة إلى الليلة السابقة التي قضيتها في المذاكرة كنت لحظة القصف على القاعة الكبرى غارقاً في النوم بعد ليلة منهكة قضيتها في المذاكرة , فقت على أخبار الكارثة وهرعت إلى المصحف الذي كان بجواري وانا أدعو الله ان يحفظ البلاد ويحفظ والدي، أخذت تلفوني وبدأت بتصفح الأخبار شاهدت كل ما جرى وأدركت حينها أن لا مفر من الأمر فبعد هذه الوحشية لن ينجو احد لكنني كنت أحاول التشبث ببصيص أمل تواصلت بالجميع من أهلي ومرافقي الوالد وتحويلة المنزل جميع الخطوط مشغولة أو خارج نطاق التغطية وبعد عدة محاولات اجاب البعض على اتصالاتي وكان كل من يرد عليَّ لا يعطيني رداً شافياً او واضحاً، كانت الأمور لا تزال مجهولة تواصلت بأحد أقارب اللواء جلال الرويشان وطمأنني بأن اللواء جلال الرويشان ووالدي الشهيد عبدالقادر هلال لا زالا على قيد الحياة وقد تم اسعافهما إلى احد المستشفيات , استعدت أنفاسي حينها للحظات وحمدت الله إلا أن تلك السعادة لم تدم طويلا حتى عاودت الاتصال بأحد أقاربي قلت له لا يصح ان تخفوا عليَّ حالة ابي ولا يحق لكم ذلك وسألته بالله ان يخبرني كيف أبي.
قال “احمد الله واشكره”
أجبته : ايش يعني؟ يعني مات؟
قال “احمد الله واشكره” وقفل التلفون
بالرغم من كلامه الواضح إلا أني أردت ان يخبرني احد بصريح العبارة ان ابي قد توفي ليصدق عقلي
أعدت الاتصال بأحد أبناء عمي وأجاب التلفون عمي حسين علي الدبب سألته عن ابي, قال إن شاء الله خير, قلت له احنا مؤمنين بقضاء الله وقدره وهذه الساعة قد توقعناها لأكثر من عشر سنوات ماضية, إن توفي فالله يرحمه وان مازل حياً فطمأنوني عنه.. قال حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم توفي قلت الله يرحمه ويغفر له وطمأنني أن خالي عبدالوهاب بخير.
وصية الشهيد
كنت اعلم أن شقيقي حسن قد علم باستشهاد أبي فاتصلت به وأول ما أجاب قال لي بصوت خال من الحزن والألم ومليء، بالثقة بالله والرضا بالقدر خيره وشره قال لي “أهلا بابن الشهيد” كان لتلك الجملة دافع معنوي كبير في نفسي ونفض كل غبار الحزن والألم الذي يطغي عليَّ.
تذكرت وصية والدي الشهيد التي قالها لنا أول مرة عندما رأس عدداً من اللجان الوزارية بجنوب وشمال البلد وكررها على مسامعنا مرارا وتكراراً عند تكليفه بمهام صعبة وخطرة انه “إذا استشهد لا نقيم له جنازة رسمية مهما حصل وأن نصلي عليه بالجامع الكبير بصنعاء القديمة ونقبره في قبره المحجوز منذ سنين بجانب قبر جدي العلامة الجمالي علي هلال الدبب بمقبرة خزيمة لذا حاولت التواصل مع عقال عائلتنا ولم استطع التواصل إلا مع الوالد العميد احمد إسماعيل ابوحورية وكان هو مجتمعاً مع رجال كثر من بلادنا وأخبرته بوصية الوالد وقال نعم قد ابلغنا أخوك حسن بذلك. أخبرت العميد أني عائد إلى اليمن ولكن لا ينتظروني بل يسارعوا بدفن الوالد فإكرام الميت دفنه فقال لكن مازلنا منتظرين ان نحصل أصحابنا المفقودين. لم اعلم من يقصد ولم يخطر في بالي أن هناك من مرافقي الوالد مازال مجهول المصير.