محطات في تجربة التحرر الفيتنامية (7)
عبدالجبار الحاج
لم يكن الخيار الأمريكي المتظاهر بالتعاطي مع هوشي منه كأمر واقع سوى واحدة من الأعيب وخدع الدبلومسية الأمريكية وهو ما كانت تدركه القيادة الفيتنامية وتضعه في كل حساباتها . طارحة على الدوام احتمالات ما تخفيه من خطط . خاصة والتجربة الفيتنامية حافلة في تراكم الخبرة الميدانية العسكرية والسياسات التي راكمت تقديرات ودقة استكشاف ما خلف الابتسامات الأمريكية الصفراء في تغليفه الدور الأمريكي ولعبه المتعددة الألوان وخاصة دورها الواسع التأثير في دعم القوات الفرنسية الاستعمارية خلال السنوات من 45 الى 50 كحقائق وواقع مادي في البناء عليه، وهو ما أصبح مكشوفا للقيادة الفيتنامية الفتية حتى ذاك بل وجليّا ايا كانت مظاهر السياسة الأمريكية .
ثم ان هوشي منه تراكمت لديه الخبرة وربما بأضابيرها المؤرشفة فهو الذي حاول في العام 44 وقبلها منذ 41 استغلال أطراف الصراع الدولي إبّان سنوات الحرب العالمية الثانية ومنها أمريكا فقد حاول الرهان في توظيف ساحات الحرب وعلى ساحة فيتنام حاول وتقدم والتقى أمريكيين بصفاتهم الرسمية طالبا تقديم العون والسلاح المطلوب والممكن من أمريكا لخوض الحرب مع اليابانيين الذين كانوا يحتلون اليابان آنذاك واليابان آنذاك كانت في المحور مع الألمان والطليان .باختصار فشلت رهانات هوشي على الحصول على السلاح اللازم .
وهو في تقديري قام بمحاولة سياسية . ومن موقعه كسياسي كان عليه ان لا يوفر فرصة إلا ويسعى ان يوفر لاحتياجاته التي تتزايد فكفاه ان بذل المحاولة . في حين كان رهانه الحاسم أبدا هو شعبه وإرادة قيادة الحركة التحررية .
أما لماذا رفضت أمريكا تقديم عون لازم لهذه القوى الوطنية الفيتنامية الصاعدة والقادرة على تحقيق انجاز عسكري على الأرض وبإلحاق الهزيمة بالجيش الياباني في فيتنام وبكلف اقل فذلك مرده ان امتناع أمريكا عن تقديم المساعدة وهي التي يمكن ان تقدم أكثر مما كان يريد هوشي منه لأي قوى سياسية عسكرية اذا توثقت بما يطمنها ويجعلها تثق انها تمنح قوة لقوى تراها انها ستبقى في المستقبل رهينة أمريكا وأمرها وقرارها وهو ما تعمل حسابه وبالتالي ففي حسابات السياسة فإن خطوة هوشي وان فشلت في الرهان فهي في حساب السياسة صحيحة كما في حساب المصالح والبراجماتية الانتفاعية الخالصة في تقديرات أمريكا متطابقة مع خفايا النوايا التي يمكنها ان تؤثر بقاء اليابان على ان تقوى هوشي منه صاحب التوجهات التحررية والبالغ الحساسية الوطنية .
من هنا كانت حسابات هوشي من أمريكا المعلنة أو الخفية تقوم على فراسة السياسة الثورية لدى هوشي أو جياب أو في مجمل النظرة التي قدّرتها الفكرة الجماعية لقوى الثورة وحركة التحرر الصاعدة في فيتنام .
واعود الى المشهد الذي تناولته في مسار الحرب المستعرة بين الفيت منه والفرنس على ارض المعركة ..
فلابد من استكمال قراءة المسار والقرار الاستراتيجي وهو هنا في قراءة للمعارك التي تناولتها في حلقة سابقة من الزوايا التي نظر اليها قائد حرب التحرير الفيتنامية ( فونجيين جياب )
فمن الجوهري استجلاء المشهد من واقع قراءة النصوص التي اوردها فنجوين جياب في تقييمه للمشهد .
دور الحزب الشيوعي في مواجهة الفرنسيين
عن المرحلة التي نتاولها في الجزء المتعلق. بمرحلة. عقد من حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي يقول قائد حرب التحرير فونجوين جياب:
“عقب نجاح الثورة، أدرك الحزب خطر عدوانية الاستعماريين الفرنسيين، حتى في إعلان الاستقلال، وقسمهم على ذلك. وطولب الحزب برفع درجة الاستعداد، وحث الشعب على التأهب للدفاع عن الوطن. لقد اشتعلت الحرب العدوانية للاستعماريين الفرنسيين في سايجون، بينما لم تكن سلطة الشعب قد قويت شوكتها بعد. وواجهتها صعوبات جمة في كلّ المجالات. فضلاً عن التهديدات الخارجية المحدقة بها؛ فلا تزال اليابان تملك قوات ضخمة؛ وجيش شانج كأي شيك، لا يزال متمركزاً في الشمال، ويبذل أقصى جهده لإطاحة سلطة الشعب. أما في الجنوب، فالقوات البريطانية، احتلت البلاد حتى خط العرض 16، وحاولت مساعدة الفرنسيين وحثهم على توسيع نطاق حروبهم.
كذلك، كان توقيع الاتفاق المبدئي، في 6 مارس 1946، بين فرنسا وقواتنا، نتيجة لهذه السياسة الصحيحة والإستراتيجية الموفقة. وبموجب موافقتنا، أمكن جزءاً من الجيش الفرنسي التمركز في مواقع معينة، في فيتنام الشمالية؛ لكي يقدم العون لجنود شانج كاي شيك.
بمقتضى الاتفاق المبدئي، نفذنا سياسة “صنع السلام من أجل التقدم إلى الأمام”، في البداية، وكان سبب ذلك وجود عناصر إيجابية مبشرة في الحكومة الفرنسية. ولكن كان من الضروري التصدي للاتجاه الإمبريالي الفرنسي، الذي كان أصحابه أعداء لشعبنا كلّه، ويصرون على استمرار الغزو والاحتلال الفرنسي. ومن ثَم، كان لا بدّ من توحيد الشعب الفيتنامي بأسره: جميع الطبقات الثورية والعناصر الوطنية؛ بهدف دعم الجبهة الوطنية المتحدة، وتوسيع نطاقها. وقد حقق حزبنا نجاحاً كبيراً في سياسة توحيد الشعب. لقد وضع الرئيس هوشي منه شعاراً أساسياً: “الوحدة، الوحدة، الوحدة الشاملة. النجاح، النجاح، النجاح التام”.
ومن المعلوم أن فيتنام بلد زراعي، ومعظم سكانها فلاحون . ومن ثَم، بينما كونت الطبقة العاملة قيادة الثورة، كان الفلاحون هم القوة الرئيسية فيها. واعتمدنا في حرب المقاومة على الريف؛ لبناء قواعدنا في حروب العصابات؛ بهدف حصار أعدائنا في المدن وتحريرها منهم.
في 1952 – 1953، قرر حزبنا تحريك الجماهير لتأييد الإصلاح الزراعي وتنفيذه، تطبيقاً لشعاره: “الأرض لمن يزرعها”. ومن ثَم، شاع التأييد لنا بين الفلاحين، وقويت شوكة جبهتنا، ونجحنا في تحريك الجماهير للصمود في حرب الشعب، وحشد القوة البشرية والمال اللازم للمقاومة، وارتفع شعار: “كل شيء للجبهة، وكل شيء للنصر”. ومن ثَم، بدأ حزبنا في حساب نقاط القوة والضعف، سواء في أعدائنا أو فينا نحن؛ وأدرك مدى التوازن القائم بين قواتنا والخطوط الإستراتيجية للأعداء.
لقد ضعفت قوة الإمبريالية كثيراً، بعد الحرب العالمية الثانية؛ ولكنها لا تزال قوية، بالمقارنة بما لدينا من قوات. كذلك كان لديهم جيش محترف، مزود بالمعدات والأسلحة الحديثة، وإسناده الإداري المتميز. ولكن نقطة ضعفهم، كانت في شنهم حرباً ظالمة عدوانية.
ومن ثَم، كان هناك انقسام داخلي، وفقد الاتجاه الإمبريالي الدعم الشعبي الداخلي، مثلما فقد تعاطف الرأي العام العالمي. كذلك، كان جيشه قوياً، في البداية؛ ولكن روح جنوده المعنوية، كانت تتردى، يوماً بعد يوم. كان هناك نقاط ضعف أخرى في الاتجاه الإمبريالي الفرنسي:
– محدودية القوة البشرية والثروة.
– حربه القدرة، كانت تجد الإدانة من أبناء الشعب الفرنسي.
من ناحيتنا
– كانت بلدنا مستعمرة، وإقطاعيات.
– ولَمّا تزل قوّتنا فتية، غير قوية.
– كان اقتصادنا زراعياً، أساساً.
– كان جيشنا يتألف من جنود عصابات، غير مدربين؛ وسلاحه بسيط، قليل؛ وإمداداته غير كافية؛ وقياداته تفتقر إلى الخبرة.
– كانت نقطة قوّتنا، هي أننا نخوض حرباً عادلة، ومقاومة مشروعة.
– كذلك نجحنا في توحيد أبناء شعبنا تماماً، وكان جميعنا مستعد دائماً للتضحية بالروح.
– وكنا نتمتع بتعاطف أغلب شعوب العالم وتأييدها.
وهكذا كانت نقاط قوة أعدائنا، هي نقاط ضعف لنا، والعكس صحيح. ولكن نقاط قوّتهم كانت مؤقتة، بينما نقاط قوتنا ثابتة، وأساسية.
بسبب هذه السمات المشار إليها، كان المبدأ الأساسي للعدو، هو: “الهجوم بسرعة، والفوز بسرعة “. ومن ثَم، كلّما طالت الحرب، تهاوت نقاط قوّته، وازدادت نقاط ضعفه. ولذا، وضع حزبنا مبدأه الأساسي، وهو تنفيذ استراتيجية حرب مقاومة طويلة الأمد تسير في ثلاث مراحل: دفاعية ومتوازية وهجومية.
وقد نفذنا، في هذا الإطار، بعد عدة اشتباكات لإنهاك قوات العدو، تراجعاً إستراتيجياً عن المدن إلى الريف؛ بهدف الحفاظ على قواتنا، والدفاع عن قواعدنا الريفية.
من 1950 فصاعداً، بدأنا حملات هجومية دفاعية، وكسبنا عنصر المبادأة على جبهة القتال الشمالية. كذلك، كانت معركة دين بين فو، في أوائل 1954، معركة هجومية دفاعية كبرى، اختتمت حرب المقاومة بنصر باهر .
المرحلة الأولى :
– حرب العصابات
كانت مرحلتنا الأولى في حرب المقاومة، هي تركيز حرب العصابات؛ بهدف الانتقال التدريجي إلى حرب نظامية. أدت حرب العصابات دوراً مهماً، شارك فيها جماهير من الشعب، من فقراء الريف، الذين صمدوا في مواجهة جيش نظامي، عدواني، امتلك أفضل المعدات والتقنيات. فتارة ينتشرون، ثم يجمعون قواهم، يهاجمون ويتراجعون، ويشنون الغارات في كلّ مكان ممكن. وحيثما ذهب العدو، كان يواجه حشوداً، تشعره بأنه غرق في بحر متلاطم من جموع مسلحة، ترده على أعقابه، وتنهك قواه، وتصيبه بالإحباط واليأس.
– المعدات والتدريب والقيادة والأداء الجماهيري
في الخطوة الأولى من بناء الجيش وتنظيمه لخوض النضال المسلح، وبسبب اقتصادنا الوطني المتخلف، غير الصناعي، وإذ تتركز مؤخرة الجيش في المناطق: الجبلية والريفية، فقد واجهت عملية تزويد الجيش بالمعدات والإمدادات صعوبات جمة. أشار الحزب بأن علي الجيش أن يدبر معداته وإمداداته على خط المواجهة، وأن يستولي على أسلحة العدو، لتسليح نفسه، ويضربه بسلاحه نفسه. وقد سجلنا نجاحاً ملحوظا في تنفيذ هذا المبدأ، وسلحنا الجزء الأكبر من جيشنا ووحدات العصابات بأسلحة، ولا سيما أمريكية الصنع، غنمناها في جبهات المعارك. من ناحية أخرى، نجح حزبنا في بث روح الاعتماد على النفس في فئة العمال. ووجد وسائل تصنيع جزء من أسلحة الجيش ومعداته. أما في ظروف تعسر وجود إمدادات، فقد رفع العمال في مصانع الأسلحة معدلاتهم الإنتاجية إلى مستويات عليا، متغلبين على الصعوبات الهائلة في المواد والتقنيات، في سبيل تحويل الحديد الخردة إلى أسلحة صالحة لرجالنا.
في هذه الظروف، عقد حزبنا دورات تعليمية للجيش، بهدف تطوير الأسلحة؛ لتعويض ضعفنا في المعدات والعتاد. ومن ثَم، نجح جيشنا، بأسلحة بسيطة، في هزيمة العدو، الذي كان متفوقاً عشرات المرات؛ ما كلفنا تضحيات هائلة ودماء كثيرة.
بعد معارك عديدة، وتحرير هوا بينه، انتشرت قواعد العصابات في دلتا النهر الأحمر، واستعدنا مناطق شاسعة في الشمال الغربي، واحدة بعد أخرى. ووجد الفرنسيون أنفسهم في أخطار يومية؛ ما اضطرهم إلى التحول إلى الدفاع. ووجدت القيادات الفرنسية ـ الأمريكية أنها لكي تحافظ على الموقف، فإنها لا بدّ أن تجلب مزيداً من الإمدادات، وتغير القادة العسكريين، وترسم خريطة جديدة. وفي ذلك الوقت، كانت الحرب في كوريا، توشك أن تنتهي. وانشغل الأمريكيون أكثر وأكثر بالتخطيط لتوسيع نطاق الحرب في الهند الصينية؛ ومن ثَم، ولدت خطة نافار، التي أعدت جيداً، بعد دراسة دقيقة، مستفيضة، بين باريس وواشنطن. وكانت، باختصار، خطة إستراتيجية، كبيرة الحجم، تهدف إلى سحق الجزء الأكبر من قواتنا الأساسية، خلال ثمانية عشر شهراً، واحتلال جميع أراضينا؛ لتحويل فيتنام بأسرها إلى مستعمرة دائمة، وقاعدة عسكرية للاستعماريين: الأمريكيين والفرنسيين.
في خريف 1953، وضع نافار خطته، وكان شعاراها الأساسيان: “حافظ على عنصر المبادأة دائماً و”فلنكن في هجوم دائم . وتكزت القيادة العليا للفيلق الفرنسي في دلتا النهر الأحمر؛ وضم هذا الفيلق 44 كتيبة متحركة، شنت عمليات شرسة في مؤخرتها. وهجمت على نينه بينه، ونهو كوا وهددت ثانه هووأنزلت جنود مظلات في لانج سون. وهددت فو ثو Tho. في الوقت نفسه، تولت هذه القيادة تسليح قطّاع طرق محليين، مهمتهم إثارة الاضطراب في الشمال الغربي.
في نوفمبر، عقب تدمير جزء من القوات الفرنسية ـ الأمريكية، في جبهة نينه بينه، تمكن جيشنا من بدء حملة الشتاء والربيع، لإثبات فشل خطة نافار. وفي ديسمبر 1953، تقدمت قواتنا إلى الشمال الغربي، حيث دمرت جزءاً مهماً من قوة العدو البشرية. وحررت لاي شاو . وحاصرت دين بين فو. كما تمكنت قوات الباثيت لاو، ومتطوعو الفيت منه، من شن هجوم في وسط لاوس، وتدمير قوات أساسية للأعداء، وتحرير ثاكهيك، والوصول إلى نهر ميكونج.
في يناير 1954، شنت قواتنا هجوماً عنيفاً، في المنطقة الخامسة، على المرتفعات الغربية. وكبدت العدو خسائر بشرية فادحة. وحررت مدينة كونتوم . وتمكنت من الاتصال بالمناطق المحررة الجديدة، في مرتفعات بولوفين، في أسفل لاوس. ثم في 20 يناير 1954، أنزل نافار جنود مظلات لاحتلال دين بين فو. كانت خطته تهدف إلى إعادة احتلال ناسان وتحصين لاي شاو ، وتوسيع المنطقة المحتلة في الشمال الغربي.
في يناير من العام نفسه، شنت قوات الباثيت لاو، ومتطوعو شعب الفيت منه، هجوماً، في أعلى لاوس، حيث أبادت جزءاً كبيراً من قوات العدو. وحررت منطقة حوض نام هو . وهددت منطقة لوانج برابانج . في أثناء هذه الفترة، تركزت حروب العصابات في المناطق الواقعة خلف خطوط العدو، في فيتنام الشمالية؛ في بينه ثي ثيين. وفي ثلاثة قطاعات في وسط فيتنام، هي: كوانج بينه، وكوانج تري، وثوا ثيين، وفي معظم الجزء الجنوبي من تونج بون وفي نام بو.
في الأسبوع الثاني من مارس، وعندما ظن العدو أن فترة هجوم قواتنا شارفت على الانتهاء، أخذ يعيد تجميع جزء من قواته، لاستئناف حملة أطلانطا، في جنوب ترونج بو. واحتل كوي نهو في 12 مارس.
في اليوم التالي، 13 مارس، بدأت قواتنا الهجوم الكبير على المعسكر الحصين في دين بين فو، واستمر 55 يوماً وليلة، حتى تم تدمير المعسكر في 7 مايو 1954.
كانت طبيعة الحرب العدوانية، قد أجبرت القوات الفرنسية ـ الأمريكية على تقسيم فِرقها أفواجاً، ثم كتائب، ثم سرايا وفصائل؛ بهدف التمركز في آلاف النقاط والمراكز، في جبهات قتالية متعددة في مسرح العمليات في الهند الصينية. وقد وجد العدو نفسه وجهاً لوجه مع تحد واضح؛ فمن دون توزيع قواته، كان من الصعب عليه احتلال الأراضي التي غزاها. إن وزعها وضعها في مأزق مستمر؛ لأنها ستكون فريسة سهلة لقواتنا. وأخذت تتناقص أكثر وأكثر. من ناحية أخرى، لو أنه ركز قواته في نقاط محددة، فإن ذلك كان يعني صعوبة حفاظها على الأراضي التي غزتها، وكان تخليها عنها، يعني الفشل الذريع”.