عرض: خليل المعلمي
منذ بزوغ التاريخ والحروب تتوالى لأسباب مختلفة، وعلى مر التاريخ كانت الحربان الأولى والثانية من أشنع الحروب التي ارتكبها الإنسان على وجه الأرض، نتج عنهما ضحايا بالملايين من مختلف الأقطار والقوميات والعرقيات، وكانت لها تبعات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية ونفسية على الأفراد والمجتمعات.
يؤكد الكاتب “كرس هدجز” أن مظاهر الحروب وآثارها تكاد تكون متطابقة في كل مكان، وذلك لأن الحرب تولّد (ثقافة خاصة) تهيمن بها على كل الثقافات، وتؤثر بها على السلوك البشري الذي يصل إلى مستوى الحضيض بين طرفي الحرب اللذين تجرّعا (مخدِّر الحرب)، فصارا على درجة واحدة من الهمجية والوحشية والعدوانية.
وتناول في كتابه “الحرب.. حقيقتها وآثارها” ظاهرة الحرب من جانبها السلبي، وأبرز حقيقتها الزائفة وآثارها المدمرة على البشر، وما تتركه من تشوهات بدنية ونفسية ووجدانية تفسد على الناس معاني المحبة والتواصل والتعاطف.
كان “كرس هدجز” مراسلاً عسكرياً لصحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية على مدى (15) سنة، وخلال تلك الفترة شاهد الكثير من الصور المأساوية المفزعة في الحروب والمعارك التي قام بتغطيتها في مختلف مناطق العالم، واستدل بهذه الصور في كتابه الذي يقع في سبعة فصول، وقام بترجمته للعربية أيمن الأرمنازي، متضمناً العديد من الأفكار والآراء والقناعات التي تبنّاها عن الحرب.
إشعال الحروب والتحريض عليها
يشير المؤلف إلى دور القادة السياسيين والعسكريين في إشعال الحروب والتحريض عليها، نظراً لما يتحقق لهم في أجواء الحرب من تمجيد وتقدير من قِبل شعوبهم، فضلاً عن غضِّ النظر عن تجاوزاتهم وسلبياتهم، كما أنها (الحرب) تمنح الفرصة للمجرمين لممارسة نشاطهم.
ويزعم المؤلف أن ما تعلن عنه الحكومات أو الجماعات من دوافع الحرب وأسبابها، لا تكون غالباً هي الدوافع والأسباب الحقيقية للحرب، وإنما هي دوافع مزيّفة لإلهاب المشاعر وإلهاء الناس، بل هي غطاء رقيق لإخفاء ما تثيره الحرب لدى الشعوب من (تقديس الذات) والتوقّف عن ممارسة (النقد الذاتي).
أسطورة الحرب
في الفصل الأول يرى المؤلف أن لكل حرب جانبين، أحدهما: جانب حقيقي، ويتمثل في ما تنطوي عليه الحرب من مخاطر ودمار، وما تخلّفه من مآسٍ وأهوال وقتلى ومصابين، فهي “ليست إلاّ قتلاً منظَّماً”، وثانيهما: جانب مزيف أو (أسطوري)، ويكمن في تضمين الأحداث معاني تروق لنا، وإن كانت كاذبة، ووصف الأشياء بما يتفق مع أهوائنا، وإن كانت زائفة مضللة، فالهزيمة تصبح نكسة مؤقتة، والأعداء هم شياطين مجردون من الصفات الإنسانية، بينما نمثل نحن الخير والصلاح المطلقين. وعبر هذا التزييف والتضليل ونشر الأساطير، يتم تبرير الكثير من الأعمال الدموية التي تُرتكب في الحرب، حيث نتوهم أننا نقوم بأعمال بطولية، متناسين الكوارث المحزنة التي تعترض طريقنا.
وتقوم أكثر الحكومات بنشر أساطير الحرب وخرافاتها عبر وسائل الإعلام التي تسخّر بالكلية أثناء الحرب لتلك المهمة وتعتمد فيما تنشره على ما يرد إليها من المراسلين العسكريين، الذين يخضعون غالباً لتوجيه الضباط ومراقبتهم في ميادين القتال التي ينقلون منها أخبار المعارك، ومن ثم فلا يسمح لهم بنقل الجانب الحقيقي للحرب.
وباء القومية
يتناول المؤلف في الفصل الثاني عاملاً رئيسياً من عوامل إشعال الحرب واستمراريتها، وهو (الهوس القومي) أو (النزعة القومية) التي لا يخلو منها مجتمع بشري، ويتم تكوينها عبر مراحل عمر الإنسان من خلال الدروس التي يتلقاها في المدارس، والقصص والمواعظ التي يسمعها في الكنائس أو المساجد، والحكايات الشعبية أو الوطنية الموروثة التي تعدّ مصادر تكوين هوية الأمة وذاتيتها.
ويذهب المؤلف إلى أن هذه (النزعة القومية) تبرز في حالات الحرب، وتأخذ طابع النشوة التي تخفف (القلق من المجهول) القابع في وعي الإنسان الفرد، بل إنها قد تلغي هذا القلق، فيتخلّى الفرد عن مسؤولياته تجاه مشروعية الأعمال الجماعية التي ترتكب في الحرب، مستعرضاً عدداً من النماذج ومنها: حرب الأرجنتين ضد جزر الفوكلاند، والحرب اليوغوسلافية، والحروب التي قادها الإسرائيليون قبل إقامة دولتهم، وحروب الأمريكيين ضد السكان الأصليين والحروب التي تقودها أمريكا حالياً ضد الإسلام.
تدمير الثقافة
يناقش المؤلف في الفصل الثالث آثار الحرب على ثقافة الأمم والشعوب المعتدية أو المعتَدى عليها حيث يرى أنه عندما تنشب الحرب، تبدأ الدولة بتدمير ثقافتها الذاتية الحقيقية، ثم تبادر إلى استئصال الثقافة الحقيقية لمعارضيها، وذلك لأن الثقافة الحقيقية في أزمنة الحرب تُعدّ أمرًا غير مرغوب فيه.
ويستعرض آليات التدمير الثقافي التي تتمثل في: الفن، والنقد، والإعلام، ففي مجال (الفن) تنتشر الشعارات الحماسية المزيفة، وبطولات القادة والجنود الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن، وذلك عبر الأفلام السينمائية والأغاني والأشعار والكتب، أما (النقد) فيتم تغيير معاييره وقيمه الحقيقية لتحل محلها قيم ومعايير أخرى مشوهة، تجعل العدو كائناً مجرداً من الإنسانية والخلق، مجرماً شريراً، في الوقت الذي يُنظر فيه إلى الذات بهالة من القدسية ذات الصبغة الدينية التي تظهرنا أبراراً أطهاراً أخياراً. فيما يُتخذ (الإعلام) آلية لإثارة الضغائن وتعبئة الرأي العام من خلال البرامج ونشرات الأخبار والأفلام والتحليلات.
انحراف أخلاقي
وفي الفصل الرابع يؤكد المؤلف أن كل ما نسمعه أو نشاهده أو نقرأه عن الحرب، لا يعكس حقيقتها وما تدور فيها من مآسٍ وأهوال، ويذهب المؤلف إلى أن كافة التصورات أو الموروثات التي كانت سائدة عن الحرب، واعتبارها مجال الرجولة والبطولة والشهامة والمروءة … إلى آخره، قد تلاشت مع الحرب العالمية الأولي، التي استخدمت فيها الأسلحة الحديثة ذات القدرة الهائلة على قتل أعداد كبيرة من البشر، بينهم مدنيين أبرياء نساء وأطفال وشيوخ لم يشاركوا في تلك الحرب. مما جعل المبادئ الإنسانية والسلوكيات الراقية التي كانت تميّز الفارس الشهم فيما مضى شيئاً من التراث، “لقد أصبحت الحرب تكنولوجية وصناعة منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى” وأصبح الجندي في الحروب الحديثة: “أداة في يد التكنولوجيا، وحسبنا القول إن كثيراً من المقاتلين لا يرون الأفراد الذين يطلقون عليهم النار”.
ومن المظاهر والآثار غير الأخلاقية التي تواكب اندلاع الحروب وتعقبها، التي رصدها المؤلف عمليات (التهجير) بما تترتب عليها من مآسٍ وجرائم، ونشوب طبقة من المجرمين الذين يستغلون ظروف الحرب ليقوموا بعمليات سلب ونهب، وتهريب مخدرات، وتسهيل دعارة، وغيرها من الأنشطة التي تدمّر أخلاقيات الشعوب، مما يؤدي إلى حالة من (الانهيار الروحي)، كما أن الجنود الذين يقتلون الأبرياء في الحروب يدفعون ثمناً عاطفياً ونفسياً كبيراً، بعد انتهاء الحرب وعودتهم إلى المجتمع المدني.
استعادة الذاكرة المفقودة
فيما يتناول المؤلف في الفصل الخامس آثار الحرب على بعض الجماعات العرقية التي تتعرّض لحروب الإبادة في كثير من بقاع العالم التي شهدت حروباً وحشية، وفيها أُبيدت جماعات كبيرة من الناس تتم عمليات نبش القبور الجماعية لتعيد إلى الذاكرة حقائق قد طمست في حينها، وتعيد في الوقت نفسه كتابة التاريخ كما يجب أن يكتب، حدث ذلك في كمبوديا، والسلفادور، ومدينة سربرنيتشا في البوسنة، كما حدث في العراق إبان حرب تحرير الكويت (مقابر الأكراد)، وبعد الغزو الأمريكي للعراق.
ويشير المؤلف إلى أن استعادة الذاكرة المفقودة من خلال التعرُّف على المقابر الجماعية قد يؤدي إلى تحديد القتلة وضحاياهم، بما يترتب على ذلك من التوبة الجماعية والاعتراف بالخطأ، مثلما حدث في جنوب أفريقيا بواسطة (لجنة الحقيقة والتصالح) التي ترتب عليها الاعتراف بحق المواطنين السود في جنوب أفريقيا، ويستدرك المؤلف إن المشهد السابق قليل الحدوث.
قضايا الحرب
لابد لكل حرب من (قضية) تثار من أجلها، وهذه القضية قد تكون حقيقية تجعل الشعب مؤمناً بها، فخوراً بخوض الحرب من أجلها، وقد تكون (مفبركة)، أو (مصطنعة)، أو (مزيفة) عبر وسائل الإعلام والمراسلين العسكريين وغيرهم لكسب الرأي العام من خلال ما يتم نشره من صور وقصص مصممة بأساليب تستهوي أبناء الشعب وتداعب مشاعرهم، وخصص المؤلف الفصل الخامس لطرح العديد من الأساليب التي يتم من خلالها استهواء الشعب وكسب تأييده للقضية التي أُثيرت من أجلها الحرب، ومنها: تشويه الحقائق التي تحدث في ساحات القتال، وإبراز الجوانب التي تضع قواتنا في صورة جذّابة تبرز تفوقها العسكري والتكنولوجي، في الوقت الذي يتم فيه عن عمد إخفاء أعداد القتلى والمصابين من مدنيين ومقاتلين، وتمجيد القتلى وإضفاء هالة من القداسة عليهم، واستثارة الرأي العام ضد العدو، وتأجيج مشاعر الكراهية والبغض له، ولو بترويج الشائعات والأكاذيب ضده، مستعرضاً العديد من النماذج لتغليف قضية الحرب بهالة من الأخلاقيات والمبادئ الإنسانية.
تأثير الحرب
وفي الفصل الأخير من الكتاب يتناول المؤلف تأثير الحرب على ما يدور داخل النفس البشرية من صراع بين غريزتي: (حب الحياة والتعلّق لها) التي يطلق عليها علماء النفس (ايروس) (والنزعة إلى الفناء أو الرغبة في الموت) التي تعني (ثناتوس).
ويرى المؤلف أنه على الرغم من التناقض التام بين هاتين الرغبتين، فإن الحرب تثير هما داخل النفس البشرية بقوة، حيث تفرض على الإنسان بدافع انتمائه وولائه القومي والعرقي والطبقي، الإقدام، والتضحية بالنفس، وإنكار الذات، وعدم الخوف من الموت، بل والرغبة فيه من أجل الوطن والأهل والواجب؛ كما تبعث (الحرب) في الوقت نفسه حالة من التواصل مع الآخرين، ومحبتهم، والتعلق بهم والرغبة في الحياة معهم، وهنا تلتقي النزعتان: (ايروس وثناتوس).