كثيرة هي الإحالات في خطاب دونالد ترامب إلى قاموس الفاشية: «زعيم» يعيد السلطة إلى شعب «يعاني» اقتصادياً، وإلى طبقة وسطى «انتُزعت ثروتها» بسبب انفتاح البلاد، وهو زعيم أيضاً يدعو إلى نسيان ما مضى والنظر «إلى المستقبل» الذي سيتميّز بأنّ «الوطنيين (على فروقاتهم) سيبذلون الدم الأحمر نفسه». تنقص عناصر عديدة للحديث عن فاشية، لكن قد يسمح هكذا خطاب بالحديث عن «فاشية جديدة» تتفاعل في مختبرات المجتمعات الغربية، ولن يعرف أحد إلى أين ستقود… فلننتظر أيام عهد ترامب
هل فعلاً تطوي الولايات المتحدة صفحة، وتفتح على أخرى أكثر قتامة؟ السؤال الذي طُرح للمرة الأولى، غداة انتخاب دونالد ترامب رئيساً، تكرّر بعد تنصيبه الرسمي. والشهران اللذان فصلا بين المرة الأولى والثانية، لم يكونا كافيين لإعطاء إجابة واضحة عن التساؤل؛ فبعدما حفلا بالتكهّن، جاء خطاب التنصيب ليزيد من منسوب الحيرة، خصوصاً لدى خصوم ترامب، الذين توقعوا هفوات ومواقف مثيرة للجدل لم تصدر عنه هذه المرة. وربما أصيب هؤلاء بخيبة أمل، بعدما تمكّن من إلباس خطابه الشعبوي ثوباً رسمياً، من دون أن يزيل عنه بعض «الشوائب» التي قد تعكسها فجاجته وحدّته المعهودتان. سعى الرئيس الأمريكي الـ45 إلى الخروج عن النص المعتاد، منذ بداية كلامه إلى آخره. فقرّر في الفقرة الأولى إعادة السلطة إلى الشعب.
وقال: «مراسم اليوم لها معنى خاص للغاية، لأننا لا نقوم بمجرد نقل السلطة من إدارة إلى أخرى… بل إننا ننقل السلطة من واشنطن العاصمة ونعيدها إلى الشعب الأمريكي». وواصل في هذا المسار، فتمحور خطابه حول أربع كلمات مفتاحية هي: وظائف، ازدهار، وطنية، حدود، ليصل في أحد الأجزاء إلى العبارتين الأساسيّتين اللتين طالما روّج لهما، أي: «أمريكا أولاً»، و»سنعيد أمريكا عظيمة مجدداً».
في القاموس التحليلي، ليست هذه الكلمات غريبة عن سياسات الرؤساء السابقين، وإن كانت تأتي بلغة أكثر دبلوماسية. ولكن في حالة ترامب، فإن ذلك يعني: انسحاباً من اتفاقات تجارية دولية، حمائية، نزعة قومية، وطلاقاً مع نظام عالمي قديم في مقابل بناء نظام جديد معادٍ للعولمة الاقتصادية.
ولم يغفل وسط كل ذلك عن الإشارة إلى الطبقة الوسطى التي اعتُبرت الخزان الذي استعار منه شعاراته الاقتصادية، فقال: «لقد انتُزعت ثروة الطبقة الوسطى لمواطنينا من منازلهم، وأعيد توزيعها على العالم بأكمله».
بعد هذه النظرة السوداوية التي قدمها عن الواقع، انتقل الرئيس الأمريكي «إلى المستقبل» وملأ خطابه بالوعود، فأكد أن «كل ذلك بات من الماضي. والآن أصبحنا نتطلع فقط إلى المستقبل». وحين استدار إلى الخارج قال: «نحن المجتمعين هنا اليوم نصدر مرسوماً جديداً يجب أن تسمعه كل مدينة وكل عاصمة أجنبية وكل دائرة سلطة. من هذا اليوم فصاعداً ستحكم رؤية جديدة بلادنا. من هذه اللحظة فصاعداً ستكون أميركا فقط أولاً. أمريكا أولاً».
وكرّر ترامب مواقفه السابقة عن أن «كل قرار بشأن التجارة والضرائب والهجرة والشؤون الخارجية سيُتخذ لمصلحة العمال الأمريكيين والعائلات الأمريكية»، مشيراً إلى أنه «يجب أن نحمي حدودنا من الآثار التخريبية للدول الأخرى، التي تصنع منتجاتنا وتسرق شركاتنا وتدمر فرصنا الوظيفية. إن الحماية ستقود إلى ازدهار عظيم وقوة عظيمة».
وربما بدا الرئيس الملياردير جدياً في خطابه هذا، ولكنه لم يكن مقنعاً بالنسبة إلى كثير من المراقبين الذين لا يرون أمامهم سوى إدارة تتكوّن من نخبة النخبة، وهو ما أشار إليه زيد جيلاني، في موقع «ذي إنترسبت». فعلى الرغم من أن الكاتب أعطى الخطاب حقّه من ناحية اتسامه بالنارية والقومية، لكنه رأى أن «كلمات ترامب على عتبات الكابيتول تحمل القليل من الشبه مع حقيقة الإدارة التي يبنيها». وأعطى مثالاً على ذلك أن «مجموعة غولدمان ساكس المصرفية، المعروفة بأنها مقرّبة من خصوم ترامب في الحزب الديموقراطي، طرحت ستة من متخرّجيها لتولّي مناصب أساسية في إدارته، بمن فيهم المرشح لتولي وزارة الخزانة ستيف منوشين». وفيما لفت إلى أن ترامب تحدث عن «الأمهات والأطفال المحاطين بالفقر في مدننا، وعن المصانع الصدئة المنتشرة مثل القبور على أراضي أمتنا»، ذكر أن منوشين «بنى ثروة من إدارته المصارف التي ضلّلت المقترضين واستحوذت على بيوتهم».
من جهة أخرى، لفت الكاتب إلى أن ترامب قال للملايين إنه «عندما تفتح قلبك للوطنية، ليس هناك مكان للتحيّز»، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع «وجهة نظر مرشحه لإدارة وكالة الاستخبارات المركزية مايك بامبيو الذي كان قد وصف الحرب على الإرهاب بأنها نزاع بين الإسلام والمسيحية، وأيضاً لا تتناسب مع مستشاره للأمن القومي مايك فلين الذي كان قد وصف الأسلمة بأنها سرطان».
السياسة الخارجية لم تحظَ سوى بجزء بسيط من خطاب ترامب. فقد لمّح إليها بقوله: «سنسعى إلى صداقات وحسن نيات مع دول العالم، ولكننا سنفعل ذلك على أساس الفهم بأن من حق جميع الشعوب أن تضع مصالحها أولاً». وأضاف: «سنعزز التحالفات القديمة ونشكل تحالفات جديدة، ونوحد العالم المتحضر ضد الإرهاب المتطرف الذي سنزيله بشكل كامل من على وجه الأرض».
وفيما لم يتحدث بشكل مسهب عن السياسة الخارجية في خطابه، فقد نشر موقع البيت الأبيض ملخّصاً عنها لا يختلف عن تصريحات ترامب السابقة. فقد كرر وعود حملته بتحقيق «السلام من خلال القوة»، وببناء الجيش وهزيمة «المجموعات الإرهابية المتطرفة»، وإلغاء الاتفاقات التجارية الفاشلة.
وفي ما يمكن أن يراه البعض إشارة إلى روسيا، ذكر البيان أنه «من خلال اتباع سياسة خارجية مبنية على المصالح الأمريكية، سنتبنى الدبلوماسية»، مضيفاً إن «العالم يجب أن يعرف أننا لا نذهب إلى الخارج من أجل البحث عن أعداء، وأننا سعداء دائماً عندما يتحوّل الأعداء القدماء إلى أصدقاء، وعندما يتحوّل الأصدقاء إلى حلفاء».
ولعلّ اللافت أنّ البيان لم يتطرّق إلى إلغاء الاتفاق النووي مع إيران أو إعادة التفاوض عليه، وهو ما كان قد ردّده ترامب أكثر من مرة. وفيما تكثر التحذيرات من القيام بأمر مماثل،
بدا أنّ ترامب وجد طريقة تساعده على عدم تجاهل إيران، من دون أن يُلزم نفسه بأي وعد يختص بالاتفاق النووي معها، فقال في بيان آخر مخصّص للسياسة الدفاعية نُشر على موقع البيت الأبيض، إن إدارته ستطوّر نظاماً صاروخياً «للحماية من هجمات دول، مثل إيران وكوريا الشمالية»، من دون أن يذكر أي تفاصيل بشأن ما إذا كان النظام سيختلف عن النظم الخاضعة للتطوير حالياً، أو تكلفته، أو كيف سيتم تمويله.
*(الأخبار) اللبنانية