عبد الرحمن مراد
لا يختلف اثنان , أن الرقص واحد من الأساليب الفنية التي كانت تعبيراً عن علاقة الإنسان بالطبيعة والموجودات وبالآخر من حوله , مثل هذا التعبير لا يقتصر على التجمعات البشرية المستقرة دون غيرها من التجمعات والجماعات المتنقلة ولكنه قد يفسر مظاهر الحياة ومستوى تعامل الجماعات والتجمعات مع الآخر ومع الطبيعة وهوقد يختلف من مكان إلى آخر أداءاً وإيقاعاً ولكل جماعة أسلوبها الفني التعبيري تبعاً لما تفرضه مظاهر الطبيعة وتأثيرتها المكانية والمناخية فالمناطق الجبلية ذات أساليب تعبيرية وفنية تختلف اختلافاً كبيراً عن تلك التي تأخذ بهندسة الاقتداء والانفتاح على الأفق الواسع كالسهل والساحل الذي تفرض طبيعته وتضاريسه أساليباً تتوافق وبعده الجغرافية سواءً في العيش أو في التعبير الحركي عن علائقه وأبعاده , ولعل الطبيعة المكان السهلي أو الساحلي تأثيراً كبيراً في البعد الوجداني والأخلاقي وبذلك وتبعاً له قد نجد الانفتاح على الآخر والتأثير به والأخذ منه , وهذا ما لا نجده في المناطق التي قد تغلقها التضاريس الجغرافية على ذاتها كما هو في المناطق الجبلية التي ظلت بعيدة عن أي تأثير أو تأثير بالآخر حتى ولو كان محلياً أو وطنياً “فرقصة البرعة” التي هي تعبير عن إنسان المناطق الجبلية تختلف اختلافاً كبيراً رغم واحدية الاسم من مكان إلى آخر من خصوصية المكان ما يتوافق معها إيقاعاً أو حرة تعبيرية فهناك ” البرعة الهمدانية” وهناك ” البرعة الهوشلية” وهناك “البرعة العوامية” وهناك “البرعة الظفيرية ” والمتأمل قد يجد تمايزاً بين برعة وأخرى فإذا كانت البرعة الهندانية تعبيراً عن الكر والفر في التدافع بين بني الإنسان أي أنها تعبير عن الحرب فإن البرعة الهوشلية تعبير عن الصيد والقنص الذي كان الإنسان يقوم به كضرورة حياته هدفها الحفاظ على النوع وتوفير الغذاء لمن يعول , .
وفي مقابل “البرعة” في المناطق الطبلية نجد رقصة “الزحفة” في المناطق السهلية التي تأخذ بعدي التعبير الموضوعي للبرعة لكنها تختلف إيقاعاً وتعبيراً فنياً حركياً للحديث الموضوعي وتكاد تكون تشخيصاً للحدث بتفاعلاته وتجاذباته الموضعية والانفعالية فهي تصوره كمثال حادث وتصور الحرب كنموذج مصغر ومثل ذلك التصور لاتجده إلا عند كبار السن ولا تكاد تجده عند الأجيال التي ترعرعت في حضن التحول الحضاري في اليمن .. الوحدة اليمنية .. بما حملته من قيم تحولية ومدنية وبما أحدثته من ثورة على مختلف مناحي الحياة الوطنية في اليمن وهو الأمر الذي عجزت عنه الثورة بما حملته مبادؤها من معاني سامية .
وما يمكن أن يقال أن جيل الوحدة اليمنية أحدث تصحيفاً في جل الأبعاد الحركية للتعبير الفني وبحيث تتوافق مع تموجاته الوجدانية وتفاعلاته الموضوعية مع الواقع الموضوعي والحضاري الجديد , “فالبرعة” مثلاً لم تعد بعداً تصويرياً وحركياً للحرب ولكنها أصحت بعداً انفعالياً يرصد خلجات النفس وتموجات الوجدان الجمعي وتطلعاته ولذلك اختفت الحركات الدالة على الكر والفر أو الكرات الدالة على التربص والصيد وحل مكان كل ذلك هاجس الإنصات إلى الكون الداخلي للإنسان في ولهٍ صوفيٍ متجرد من كل علائق العالم الموضوعي .
قد يكون الإيقاع هو الرابط الوحيد بين جل الفنون التولية والحركية وبذلك قد يصبح هو الفيصل وهو المطور والمتجدد أيضاً لذلك قد تسمع من كبار السن أن عازف الإيقاع لا يستطيع ضبط الإيقاع وفق الحس الموسيقي الذي يموسق حركته وتموجاته تبعاً له ومثل ذلك القول يدل على أن هناك تطوراً إيقاعياً لا يقل أهمية عن التطور والتجدد الذي حدث في الفنون الأخرى كالأغنية مثلاً .. إذ الملاحظ بين الأغنية الشعبية والتي هي تعبير عن عموم الشعب وبين أغنية الخواص والتي تعبير عن طبقة اجتماعية أو فئة اجتماعية بعينها نلاحظ أن الجامع المشترك بين الأغنيتين هو إيقاع الدسعة ثم يتفرع كل منهما إلى عالمه الخاص وخصائصه الوجدانية إلى الحس السلطاني اللحجي القمذاني بينما الأغنية الشعبية تذهب إلى تموجات البحر وتداعياته وانفعالاته وتقادفاته أي أنها مجاراة للطبيعة بينما الأخرى مجاراة للحس الطبقي الذي تحركه الكبرياء والأنفة وتحركه السلطة , ويمكننا ملاحظة ذلك حتى من خلال التسمية الإيقاعية إذا أن الإيقاع الأول يسمى الدسعة , والثاني دسعة وسطى في أغنة الخواص وشنيه في الأغنية الشعبية والثالث إيقاع السارع في أغنية الخواص وإيقاع السلامية في الأغنية الشعبية وإيقاع الكوكبانية يقابله إيقاع الظاهرية والإيقاع اللحجي يقابله إيقاع الموج ي الأغنية الشعبية , والجامع المشترك بين الأغنيتين هو البناء الهرمي , إذ هناك أغنية الثلاث , وهناك أغنية الخمس , والذي تعارف وتواضع عليه الوطن الفني أن أغنية الثلاث يتكون البناء الهرمي لها من ثلاث إيقاعات متنوعة وأغنية الخمس من خمس إيقاعات متنوعة , وهذا البناء تفرضه طبيعة المكان , “فالديوانية” – وهذا مصطلح فني يطلق على أغاني المقيل وكان منذ أولاً إلى أمدٍ قريب – لها طقوسها الذي تفرضه خضرة القات وصوت المداعة وبخور المجاصر , والساعة السليمانية التي تفوض مقاماً صوفياً وورداً خاصاً بها .
زبدة القول أن التعبير الحركي “الرقص” كان تجسيداً حياص لعلاقة الإنسان مع الطبيعة والموجودات من حله ؛؛؛