“أرواحهم كانت تناديني ” القاعة الكبرى والجريمة السعودية المروعة

د.أسماء الشهاري
وصلت إلى هناك مع الواصلين.. دخلت بسرعة  وهرعت إلى حيث مكان الدخول ليس شوقاً بل فضول..!
لكنني مُنِعت كما غيري.. يجب علينا أولاً أن نحضر الوقفة بالخارج.. نعم كانت وقفة رائعة  ومعبرة كروعة أصحابها  وكل من حضرها بإخلاصهم  وتفانيهم لأجل تلك الأم الثكلى الجريحة على أبنائها..
انتهت الوقفة الاحتجاجية التي نظمها اتحاد الإعلاميين اليمنيين والجبهة الثقافية  وتسارعت خطواتي مع آخرين إلى ذلك المكان الحزين الذي تأِنُّ لجراحه الأرض.. وتبكي السماء من هول ذلكَ الأنين..!
فور وصولي أَخذَت عيناي تُسافرُ في المكان وتحتضنُ الأرجاء في لوعةِ الحيران..  وتتساءل..؟
هنا كانوا.. هنا جلسوا.. هنا وقفوا.. قبل أن يتوقف الزمان.. ويتلاشى المكان..!  وقبل أن يضيع من قاموس البشرية شيءٌ اسمهُ إنسان..!
توجهنا للكراسي المخصصة وجلسنا  وبدأ المؤتمر يتحدث عن الكارثة فاستمعنا.. كُنّا من هول ما رأينا  وسمعنا في شبه وعي وشبه غيبوبة.. فتارةً يأخذنا الكلام..  وتارة يكاد يغشى علينا مما حلَّ بالمكان.. أو بالأحرى مما حلَّ بمن كانوا في المكان..!
تحدث الحقوقيون  والإعلاميون  والناشطون بالتفصيل..  ومن كثرة حرقتهم تُهنا في الأحداث والتفاصيل..  وأثناء استغراقنا في سماع ذاك الشرح الطويل.. رأينا فلاشاً يصور المكان قبل الواقعة وهو مكتظ بذلك العدد الكبير الكثير..  ورأينا بعدها الحريق والعويل والأشلاء  وما حلَّ بهم من قتلٍ  وتنكيل..!
فألتفت إلى يساري لأرى تلك الفجوة الكبيرة في السقف من الأعلى فقد كنّا في الدور الأرضي وكأنّها فوهة بركان انبثقت منها ألسنة اللهب  والنيران.. لكنها كانت الفجوة الهائلة التي صنعها ذلك الصاروخ اللعين الذي عصف بالمكان  والزمان في تلك الفعلة التي تبرأ منها حتى الشيطان..!
ولم تكن واحدة بل اثنتين..!
للحظة تخيلت أنَّ الطائرة تُحلِّق فوق رأسي  وتدور  وأنها ستُلقي جحيمها  وحقدها المسعور.. الآن عليَّ أنا  وكل الحضور..  وأنَّ الجميع من حولي سيصاب بالرعب  والذهول..! أم أنه سيجري تائهاً  وخائفاً مذعوراً..
هذا إن تمكن من النجاة ممن أعلن نفسه وصياً لِوأدِّ الحياة..  ولنشر الموت  وأن يرتكب كل يوم مجزرةً  ومأساة..!
كل هذا  وأنا أتخيل أم أتذكر ما حصل قريباً بمئات من الأبرياء كانوا هنا ذات يومٍ  وكيف تم حرقهُم أحياء..!
نعم..كأنني أراهم يصرخون  ويستغيثون  ومن العذابِ والآهاتِ يولولون.. يا إلهي هل سيصل إليهم المسعفون..؟
كيف يصلوا؟  وقد كانوا أيضا هم مستهدفون.!
أيّها الأحرار.. ألقوا الخطب وأصدرِوا البيان  وأعلِّنوا الجهاد لا الحداد.. ففي صدري نارٌ  وبركان.. وكأنّهُ سيتفجّرُ الآن..! ليجتث كلّ خائنٍ لله والأديان  ومنسلخ عن كلِّ شرائعِ الإنسان..
تعالتِ الأصوات بوقف العدوان فوراً دون قيدٍ ولا هذيان  وبخروج الغزاة من أرض الإيمان وبرفع الحصار الظالم الآن  وبوقف قتل الأبرياء قصفاً  وجوعا  وحرمان..!
انتهى المؤتمر  وأُصدِرَ البيان.. ولا زلت أنتظر زميلاتي.. لقد انتهى كل شيء هيا لنرحل الآن فلم يتبقَ غيرنا  والقليل.. لكن ثمة شيءٌ في نفسي.. كأنَّ هناك من يناديني  ويمنعني عن الرحيل..
ونحنُ خارجات توقفن.! وأشرن لي إلى هناك.. انظري هناك حصلت المأساة.! ما رأيكن أن نجرب مع رجال الأمن ليسمحوا لنا برؤية المكان  ونقول لهم:نحن إعلاميات.!
لكن قلبي كان يقول لي :توقفي فلن تقوي على ذلك..  وروحي تقول :لا تترددي  وامضي فأرواح تناديك لا زالت تحوم جريحةً هناك  ولا زلت أستمع صوت صداها يصرخ في المكان  ويخترقُ الزمان لتنظري بعينيك يوم مات ضمير الإنسان..  وأصبح سلعة تباع  وتشترى  وأصبحت المادة هي السلطان  ولم يعدِ العالم يعترف بشيء اسمه إنسان.!
كنت معهن ووصل بعض الأشخاص وكانوا يتحدثون معهم ليسمحوا لهم  وهم يرفضون  وبعد العديد من المحاولات وإخراج البطاقات :انظروا نحن إعلاميون نريد معاينة ما حلَّ هناك.. سمحوا لنا أخيراً على أن ننظر من الباب  ونعود أدراجنا..
ألتفت نحوهم  ونظرت إليهم نظرة عتب لم يفهموها  وقلت لهم بها :لماذا سمحتم لنا؟
تقدمت خطواتي ببطء  وتثاقل  وقبل أن نصعد بضع تلك الدرجات رأيت أحذية للمغدور بهم.. وصلنا إلى ما كان يفترض أنه باب لنلقي نظرتنا ونعود.. لكنني توقفت  وأصيبت أطرافي بالجمود  وأنا في حالة من الذهول  والشرود..!
لقد قرأت  وسمعت  ورأيت الكثير  لكنها لم تكن أبداً بهول ما رأيت.!  وقلت في نفسي لكل من أتى  ولم يزُر هنا.. أنت ماذا رأيت.!
أول ما وقعت عيناي على بقايا جنبية محترقة على الأرض.. وفوق الركام مضيت.. قلت في نفسي :هيا تعالوا أخرجوني  وقولوا هذا يكفي  وامنعوني.. لكن  وآسفاه.. أنهم لم يسمعوني.!
في المدخل على اليمين  والشمال دمارٌ كبير  وحذاءٌ هناك لطفل.. أين أصبحت يا صغير؟
مشيتُ نحو المكان الرئيس الذي تلقى تلك الضربات.. احتبستُ الدموع مع الكلمات شعرتُ أني لو أطلقتها لربما روحي عانقت تلك الأرواح التي شعرت أنها تعرج بين السماء  وهذا المكان  ولها بكاء تنفطر منه القلوب  ولو سمع الناس صراخها لصمّتِ الآذان..  وهي تتوسلِ الأحرار أن يأخذوا بثأرها ممن غدر بها من أولياء الشيطان الذين سخروا أنفسهم  وكل ما يملكون لعبادته من دون الرحمن.!
قالت لي الكلمات اعذريني فلم أجد مفردات أساعدك ِ بها لتصفي هول المأساة.. فقلت ُ لها:لا تثريب عليك..
لم يعد هناك سقف..فقط دمار رهيب  وخراب من هوله الوالدان تشيب.!
هناك أحجار كبيرة.. هناك أعمدة.. هناك فرش مركومة على بعض.. هناك..  وهناك….  وهناك من تناثرت أشلاءه  وفي تلك الزاوية من شبت النيران في جسده لتتركه جثة متفحمة  وهناك من كان يهرول مذعوراً علّهُ ينجوا  والدماء تسيلُ منه بغزارة..  والمكان قد لفه الظلام  وأحاطه الدخان  واشتعلت فيه النيران..  وتحت ذلك العمود كان شهيداً أ وجريحاً في حالةٍ يبكي منها الحجر ُ  ويذوب.!
وهنا قريباً مني مجموعة من الغتُر.. أحذية..  وبقايا جنبية أخرى متفحمة.!
أعرف أنها لم تكن الجريمة  والمجزرة الوحيدة بهذه الوحشية  والبشاعة.. فهناك العشرات  والعشرات منها في مختلف المحافظات وفي كل بقعة من وطني الحبيب لكن هذه التي تم توثيقها بهذا الشكل المهيب أكثر من غيرها مما سيظل وصمة عار يندى له جبين الإنسانية مهما تعاقبت الأجيال البشرية .!
ووسط هذه الفوضى  والركام كأنني كنت أراهم  وهم يصرخون  ويبكون  ويحترقون  والبعض منهم بدمائهم يهرولون.. إلى أين؟فلا تزال هناك غارة ثانية،  ومن بطش هذا العالم المتجبر أين ستهربون؟
كانت أرواحهم تناديني هنا  وهناك  وتقول :انظري أي إجرام  وظلم لحق بنا..ماذا ارتكبنا  وما هي جريرتنا؟ فلم أدرِ ما أقول..!
كانوا يقولون لكل الموجودين :أوصلوا مظلوميتنا  وخذوا بثأرنا..
إلى جواري كانت صديقتي بيدها الكاميرا، فقلتُ لها :صوري هنا  وهناك  وهناك..  وهنا..  ولا تنسي هناك..!
كانت تقول لي :نعم صورت.. نعم صورت..
لكنها أرادت أن تصور تلك الفجوة الكبيرة الواسعة التي أحدثها ذلك السلاح المتطور الخطير شديد الانفجار.. فقد جربوا علينا كل أنواع أسلحة الدمار المتطورة منها  والفتاكة  وكأنَّهم يلقونها على جرذان..!  ونحن أكرم بني الإنسان.. لكن من تحالف مع الشيطان، كيف له أن يعرف حرمة الإنسان..!
سمعتُ أحدهم يقول من خلفنا أن آخر جثة تم استخراجها بالأمس من تحت الركام.. لكنني كنت أشتم رائحة لم أعد أحتمل البقاء..  وكنت أقول لها هل تشمين فتقول لي :لا..  وعندما دسنا على أحد الفرش انبثقت رائحة قوية فمضيت  ولم أعقِّب.. لكنها تبعتني  وأمسكت بيدي.. انظري هناك، أين؟ هناك..
قالت: الرائحة من هناك.! كانت بقايا سجاد محترق عليها بقايا أشلاء صغيرة جداً  ودقيقة محترقة  وقد بدأت الديدان تخرج منها.!
نعم هكذا صنع الأشقياء بالأبرياء.. ويّلهُم من ثأرنا  ومن بطش ربُّ السماء..

قد يعجبك ايضا