»كأسنان الذئب«.. مجموعة قصصية صادمة

الغربي عمران

أخيرا تصلني هديتي .. مجموعة “كأسنان الذئب” الصادرة عن منشورات ديهيا.. في المملكة المغربية.2015. بعد أن ثابرت منذ صدورها على  متابعة أخبار احتفاء  المشهد الثقافي المغربي بها في أكثر من مدينة. فشكرا أيها الرائع بشير زندال.
“23” نصا توزعت بين ق ق ج، والقصة لقصيرة. وهي تجربة ناضجة للكاتب.. تُحسب للمشهد السردي في اليمن بل والمشهد العربي. قد يتعجب القارئ أن أصف المجموعة بالتجربة.. بعد أن تعود تلك الصفة أن تُطلق على أكثر من  إصدار في نفس المجال لكاتب واحد..  ورؤيتي أن نصوص  المجموعة تجربة  تنطلق من تلك النصوص التي كُتبن على مدى عدة سنوات. فالقارئ يمكنه تمييز الاختلاف تقنيا وأسلوبيا من نص إلى آخر.. بمعنى أن كل نص يمثل نصا يحمل سماته الخاصة به فنيا.. وهذا يعود إلى أن الكاتب غير  متسرع في إنتاج نصوصه.. ولا يعتمد السلق السريع.. وأدلل على ذلك بنص “الباعوضة” الذي كان قد نُشر قبل سنوات.. ولاحظت مقدرا الثناء والإشادة ممن قرأوه.. ولم يأت الكاتب بعده بنصوص أخرى إلا بفترة طويلة.. ولذلك  نجد عدم التشابه بين نص وآخر فنيا وموضوعيا.. ولهذا أعتبر أن كل نص عمل يستحق الوقوف على مضامينه وبناه.. وكذلك على تطور رؤية الكاتب  بين نص وآخر.
وعطفا على ما سبق، فسيلاحظ القارئ أن لكل نص عوالمه ومعطياته الفكرية.. وأدواته النقاشية ودلالته المتعددة. بل ولغته الجاذبة. متكئا على سنوات الطفولة والصبا.. وهي الفترة التي عادة ما تمثل لدى المبدع مخزوناً مهماً وحاسماً.
وفوق ذلك يحضرنا هنا استخدام الكاتب لمفردات بيئته.. ليس بمفهومها اليمني.. بل بذماريتها الموغلة والمنسوبة إلى مدينة الكاتب.. ما يقرب بإيقاعاتها تلك البيئة الخصبة بالتاقضات.. ويجعله يشعر بتمازج الشخصية ومحيطها.. وأورد من تلك المفردات والجمل: الباب.. الباب.. ماشيين الآن. عفطاً. طويل ..عريض. شابع دنيا. بز زلطك وانزل. شعب جاوع .. مطلب. ناوي ليوم الجن. بلغت. الأعفاط. رزقي. الفحسة. يدسعني. نزي. تخديرة. التخزينة. أتعسكرت. الكلام الشوم. التفرطة. عَزَبة. عيب وقلة حياء. الحريوة. انتبهي.. بيضي وجه أبوش وأخوتش. إلى آخر تلك المفردات والجمل المحلية.. التي يأتي بعضها فصحى أو اشتقاقاً لفصيح.. لكن مدلولها يختلف لدى القارئ الملم.
ومن الصعب تناول تلك النصوص من جميع زواياها.. فنيا أو موضوعيا. فكل زاوية تحتاج إلى مقالة معمقة .. ومنها المكان الذي يحتل لدى زندال مكانة محسوبة.. ثم شخصيات تلك النصوص التي تتباين مستوياتها..ففي: الشنب.. أو العسكري.. والباقي. حافظ الكاتب على مسافة دقيقة في تقديم تلك الشخصيات.. فلا  هو أوغل في أعماقها .. والإيغال لا يناسب فن القصة القصيرة.. ذلك الذي يقع فيه بعض الكتاب.. دون ادارك أن تلك من سمات العمل الروائي .. وبين ترك الشخصية دون تقريبها للقارئ.. ليقف بنا الكاتب موقف الوسط.. حيث نشعر بالشخصيات  أكثر ألفة وخفة.
ثم ذلك الحوار مع الذات أو أفق البوح أوالمنلوج الذي يتسع ويتقلص من نص إلى أخر..بما يخدم موضوع النص.. وهو أيضا من أساليب الفن الروائي..حيث أستخدمه الكاتب بخفة متناهية.. وقد تمثل في نصوص “العسكري” و”قرار”الشنب”.
إلا أن ما يلفت الانتباه ذلك الأسلوب الساخر.. وهو ما اخترت الكتابة حوله.
فتلك النصوص تدفع بالقارئ بين صفحة وأخرى للابتسامة .. ليست ابتسامة لسطحية الفكرة.. أو وضع الشخصيات في مواقف مفتعلة من أجل إضحاك القارئ .. بل هي الابتسامة المرة لأوضاع اجتماعية مهينة أو أحداث تقع فيها الشخصيات ضحية لمتسلطين دينيا أو سياسيا أو أجتماعيا.   وقد طعمها  بأفكار ذا نفس تهكمي. ولمن لا يعرف الكاتب فأن ملمح  السخرية والتهكم  جزء من شخصيته.. والمدينة التي ينتمي إليها تجتمع في سكانها خفة الدم وغلظة الطبع.. فهي معمل النكتة  اللاذعة في اليمن.. وبذلك تجد ذلك المجتمع ينتج النقيضين وهذا ما قدمته المجموعة بشكل فارق.
ونعرف بأن الفن الساخر من أصعب الفنون.. سواء كتابة أو غير ذلك وأن بدت سهلة.. وفي اليمن قلة من يمتلكون تلك القدرات.. وجميعنا يعرف أسلوب الرازحي والقعود كتابيا.. إلا أن تجربتهما تتصف بالتبكيت والتنكيت . على عكس هذه المجموعة التي يناقش فيها  زندال مواضيعه بأسلوب جاد ممزوج بسخرية مؤلمة ..معتمدا على المتناقض والمفارقة.. وأحسب له تفوقه على من سبقوه.. بأن سخريته تأتي في سبر واقعنا المعاش.. وهو يعالجها بعمق وجدية. قد يصل إلى مرحلة الإيلام في نقده وإدانته لواقع وموروث قبيح.
بداية بنص “البعوضة”  واسأل من منا لم يمر بنفس تجربة شخصية النص.. من منا لم يتضايق من ملاحقة ومضايقة “النُمسي” أو “الحُربي” تلك البعوضة التي يطلق اسمها كصفة على المخبرين”نمسي” في مدينة ذمار ومدن يمنية أخرى. والنمسي أصابع للجلاد يحاول بها الإيقاع بالضحية.. في الوقت الذي تعمل الضحية التخلص من مراقبته.. تلك المراقبة التي تنتج دبج تقارير مغلوطة  تقوده إلى أقبية الأمن السياسي وإفراغ عقد المحققين حين يحاولون تجاوز فشلهم في تحقيق مكاسب على حساب كرامة وإنسانية الفرد.. هنا يظهر الكاتب أوضاع شعوبنا المزرية وتلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم حين تتحول إلى علاقة جلاد بضحيته.. وبدور الضحية يحاول الإفلات .. الانعتاق.. متحملا الشك في حواسه. ما أصغرها وأقسى ضررها.. الباعوضة مزعجة بأزيزيها .. ضارة بنقلها الأمراض من خلال مص دم الضحية .
الكاتب هنا تهكم من معاناة الفرد من النُمس.. وأولئك الذين يعتاشون على تعذيب ودماء غيرهم.. أو هكذا يدلل أحد أوجه النص.. ورغم المقاومة إلا أن الضحية فضل الرضوخ من أجل لحيظات من النوم الهنيء بعد أن فشل الإفلات.. وهي دعوة مبطنة للمقاومة والثورة ضد الجلادين ومخبريهم. والحالة ليست في اليمن.. فقد تجد ثقافة المتسلطين في علاقتهم بمواطنيها فأينما تكون يوجد “نُمسي” كأداة من أدوات  من الجلاد.
وقد ينظر للنص من وجهة أخرى.. فالباعوضة .. رغم صغر حجمها إلا أن لها أثراً سلبياً ومدمراً.. بمعنى أن لها تأثيراً على محيطها.. وهنا لو قارنا بما نملك كأفراد من عقل وحجم وقدرات .. ومع ذلك قد يرى البعض أنه غير مؤثر في محيطه .. لكن باعوضة زندال تشير لنا مقدار أثرها على شخصية محيطها.. وحجم العذاب والمعاناة التي تسببه . هذا النص يذكرنا بمقولة قرأتها في كتاب “لروبين شارما” بعنوان “دليل العظمة” حين أورد مقولة أنيتا روديك: “إذا كنت تعتقد أنك أصغر من أن تؤثر فيما حولك.. فجرب أن تحاول النوم وفي حجرتك باعوضة واحدة ”  هذا القول يدفعنا لتحفيز أنفسنا نحو أدوارنا في محيطنا.. وعلينا أن نؤمن بقدرة الفرد على التغيير.. فألباعوضة أو الناموسة بضآلة حجمها لها قدرة على إحداث أثر في محيطها .. فكيف لا يكون لنا أثر في محيطنا ذلك الأثر الإيجابي . إذاً النص حمال أوجه.. والنص الذي لا يحمل أكثر من وجه نص عقيم.
نص ثان بعنوان”الشنب” يذكرني بحكاية عودة صديق من أبناء قريتي”أحمد عايض” بعد غياب سنوات قضاها في هنغاريا أكمل دراسته الجامعية والماجستير ثم الدكتوراه في الجيولوجيا.. وحين عاد كان حديث سكان القرية حول غياب شنبه شغلهم الشاغل.. يسألونه: كيف يعيش بدون شنب وسط أغراب.. وحول مادفعه لارتكاب تلك الحماقة.. وما موقف سكان تلك البلد من إزالته لشنبه…إلخ. وهكذا أنشغل سكان القرية بمصير شنب العائد, ولم يسأله إلا البعض عن تحصيله العلمي وطبيعة الحياة هناك طوال تلك السنوات.
قد يدرك القارئ رمزية.. الشنب في نص زندال.. وهو يستحضر موروثنا الديني والاجتماعي .. وما رخته من دلالة الفحولة.. وكمال الرجولة.. معاني غرست في وعي المجتمع ومنها الانتقاص من المرأة حين يشبه حليق الشنب بالمرأة .. نص يصطحب القارئ إلى استحضار الكثير من عادات تعمق التخلف والجمود فينا وطغيان الشكل على المضمون.
هناك ملمح آخر حمله النص حين جعل من مدينة صنعاء ملاذاً لحليقي الشوارب .. تتقبلهم بل ويعيشون بشكل طبيعي..  وهناك يشير النص إلى ثلاثة مستويات من الوعي: الريف وما يكبل مجتمعه من عادات مضحكة.. المدينة الصغيرة التي تستمد ثقافة مجتمعها من الريف المحيط بها .. وكان يفترض العكس. ثم المدينة الكبيرة التي تتمازج فيها الأعراف والثقافات والمفاهيم وتقبل الآخر.
نص فارق بموضوعيته.. وسخريته.. وذلك المنحى التهكمي الذي يصل بالقارئ إلى ذروة المتعة والإدهاش .. ما يدعونا إلى هدم الكثير من مساحات مشينة تقبع بداخلنا.. ويدفعنا إلى إعادة بناء وعينا على أساس جوهري.
نص ثالث بعنوان “العسكري” شخصية تصطحب القارئ في نفس الطريق الذي سار به الشنب .. حيث جسدت تلك الشخصية  ثقافة مجتمع مشبع بدين مزج بالتقاليد.. لينتج وعي مشوه  للجنس والمشاعر الإنسانية..
نصوص تتجاوز  مناقشىة المعهود.. إلى مناقشة الممنوع . يشير الكاتب بأصابع الاتهام إلى مواطن الخلل في الدين والثقافة والعادات .. وفي فكر المجتمع الذي يرزح منذ آلاف السنين دون تغيير. بل ويكشف تأزم المجتمع .. والحياة في ظل نكبات مستمرة .. نصوص تدعونا للثورة على نمط نعيشها في شقاء..  نصوص جريئة.. وجارحة.
أكتفي بتلك النماذج وأختار من نصوص ق ق ج نص باتع بعنوان حبيبة2
“ظل الخيط يغازل الإبرة, يحاول أن يدخل قلبها, لكن أخلاقها (ضيقة), حاول وحاول, وحين نجح, سحبته ورائها. تزور به ثقوب عدة.. وبين ثقب وآخر تتبرع بجزء منه, في نهاية زيارتها لم يتبق منه إلى يد معلقه بها.. استغنت عنها ورمتها. ثم وقفت تنتظر خيط آخر”
أفضل عدم الغوص.. وأترك للقارئ الكريم تأمل النص.. وأنا على يقين بأن قراءته النص تختلف من قارئ لآخر.. فسيقرؤه أحدهم من منظور سياسي.. وآخر سيتناوله بشكل سطحي.. وثالث سيقف متأملا لرمزية الإبرة والسلطة.. الإبرة وهذه الحياة التي تستهلكنا.. الإبرة وهذه العنف والتطرف المستشري في كل حياتنا.. الإبرة والتسلط الممزوج بالاستغلال.. الإبرة وكل شيء قبيح.
عنوان آخر من نصوص ق ق ج “عبادة” ذلك النص العميق ..المختزل بكلماته المحدودة ..ذكرني بنص موازي له في الغاية للقاصة أسماء المصري بعنوان “احتراق” والنصين يسيران في اتجاه واحد.. تعظيم هذا الكائن”الإنسان” وتمجيد عواطفه ورؤاه .. وقد لخص زندال حب الإنسان وعشقه للنور.. والمضي حد الاحتراق ..  وكأنه يؤكد بأن الحياة ليست أن تعيش قرن من  الرتابة .. وأن تكون كائناً باهتاً في عواطفك وفي تلقيك لمباهج الحياة.. بل أن تعيش لحظات ولو قصيرة من الجمال والسعادة والتوهج حتى لو أدى بك الأمر إلى الالتحاق بالنور .. وفي نصه التحمت الفراشة بالنور في سعادة تامة.. كما فضل كائن أسماء الانصهار بالشمس وأن يكون في أتونها .. وكأنهما تذكرنا نوصهم  ببيت شعري لنزار قباني “لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والناري.. خيرتك فاختاري…إلخ . وقد ناقض بشير وأسماء ونزار مقولة المعتزلة بوجود المنزلة بين المنزلتين ..
في نصوص بشير جرأة لافتة ونقد لاذع تمتزج فيه الدموع بالابتسامات المرة على واقع قبيح نصنعه ونتلذذ بأن نحياه.. وكأننا كائنات منفصمة تدعي الثقافة والاستنارة.. وفي واقع الحياة المعاشة تجدنا نمارس ما ننتقده في علاقاتنا الاجتماعية .. وما هو مهين لإنسانيتنا باسم الدين والعادات والتقاليد .
ومن خلال الحوار الذاتي الذي يعتمل أثناء قراءة نصوص هذه المجموعة  يبزغ سؤال: هل على المبدع أن يكون واسع الإطلاع ومثقفاً.. أم يستكفي بموهبته وقدرته على الكتابة ونسج الحبكات وتشبيك العقد.
هنا أجدني أقول بأن الإطلاع والقراءة الدائمة وثقافة المبدع تظهر من خلال تلك الرؤى والمعالجات التي يمارسها الكاتب أثناء صياغة فكرته. لينتج نصوصا من النضج بمكان.. وبشير كاتب مثقف وذا حس مرهف.
وختاما أفضل أن يكون حديثي حول العنوان.. ودوما أردد بأنه مصيدة لقارئ محتمل “كأسنان المشط ” مقولة تراثية وقد تكون دينية.. تشير إلى تعاون وتكامل المجتمع.. تحرض الأفراد على المساواة والعدل .. لكن الكاتب أستبدل مفردة  المشط بالذئب.. وهكذا قدم لنا عنواناً لافتاً ولا ينسى.. فالعنوان وما يحمله من دلالات يذهب بنا إلى الافتراس..  فأسنان الذئب حادة وقاطعة. على عكس أسنان المشط. وقد بحثت عن نص من نصوص المجموعة بهذا العنوان فلم أجد .. لكني وجدت تلك العلاقة بين مضامين جميع النصوص والعنوان.. فأدوات رجال الدين لها أنياب.. والمتحكمين بالسلطة لهم ملايين الأنياب.. وما أمتزج من حياة المجتمع من أعراف وعادات قد حولتنا إلى طعم لأنياب عدة.
يرينا الكاتب بأنا نغوص في وحل يجب علينا التخلص منه.. حتى نواكب أمم الأرض في الحياة بحرية وكرامة.
بشير زندال بنصوصه تماس مع الديني.. والاجتماعي.. والسياسي.. وإن أقترب من داروين وعلاقة ما يعتمل في الفرد بالجنس.
سيلاحظ القارئ ذكري نصوص لكتاب آخرين .. وقد تداعت في خاطري أثناء القراءة..مع الفراق الزمني بينها..  وقد أتيت بها تأكيدا لحقيقة أنا مجتمع مأزوم.. مجتمع منفصم.. وجميع كتابنا يشيرون  في إبداعاتهم إلى تلك المواطن .. يحاكمون رجل الدين.. موروث ميت  ينخر حياتنا.. رجال السلطة وقد استبدوا واستغلوا ودمروا الأوطان.. أفراد الأسرة حراس الفضيلة.. باذرين ذلك في عقول صغارهم . فإلى أين نحن ذاهبون بكل تلك العيوب التي نقاوم خلعها؟

قد يعجبك ايضا