كان التراث العربي الإسلامي نقطة انطلاق الحضارة الغربية إلى آفاق جديدة، حيث عني مفكرو الغرب في عصر النهضة بدراسة هذا التراث، والاتكاء عليه في المحاولات النهضوية التي شهدتها أوروبا بعد القرون الوسطى.
وفي كتاب “الحكمة العربية: دليل التراث العربي إلى العالمية” الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت، يحاول المؤلف د.محمد الشيخ إلقاء الضوء على بعض الجوانب التي أفاد منها الغرب من التراث العربي أيما إفادة، رغم التجاهل الذي يبديه بعض مفكريه في هذا الصدد.
ينصبّ جهد المؤلف في هذا الكتاب على إبراز ما يتضمنه التراث العربي من كتابات ورسائل وأقوال في الحكمة وأبوابها، موجهاً اهتمامه ليس إلى الجوانب التي استُهلكت بحثاً وتأويلاً، بل إلى تلك الجوانب والفصول المنسية والمهمشة في هذا التراث، ومحاولة انتقاء ما يمكن أن يجعل منه تراثا عالميا، وما يحفظ مكانته المتميزة، وما يُمكّن الإنسان العربي من مواجهة موجات العولمة الثقافية العاتية، وما يجعل قارئ التراث متشوقا إلى قراءة تلك الكتب القديمة التي تكاد تصبح مهجورة أو في طي النسيان.
ويؤكد المؤلف أن اختياره لهذا الموضوع يعود إلى التجاهل المتعمَّد في ذكر المفكرين والفلاسفة العرب عندما يكتب مفكرو الغرب، ومعهم بعض الكتّاب العرب، عن مفهوم “الإنسان” ومفهوم “الموت” ومفاهيم “الغير” و”الغربة” و”الوحدة” و”الصداقة” و”العنف” و”التسامح” و”التيه” و”الحيرة” وغيرها من مواضيع الفكر العالمي المعاصر، حيث يأتي ذكر أسماء أفلاطون وأرسطو وشيشرون وأوغسطين ومونتيني وباسكال ونيتشه وغيرهم، ولا تجد ذكراً لاسم أبو حيان التوحيدي ومسكويه والراغب الأصبهاني والجنيد والنفري وسواهم.
ويضيف بأن مفكري الغرب عند حديثهم عن “المالنخوليا” (السويداء)، تراهم لا يذكرون رسالة الكندي في دفع الأحزان، ولا رسالة ابن سينا في الحزن، وعند ذكر الصداقة لا يذكرون رسالة التوحيدي في الصداقة والصديق، ولا رسالة الغزي في آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة، ولا رسالة ابن عرضون في آداب الصحبة، وعند ذكر “الموت” لا يذكرون رسالة ابن مسكويه في علاج الخوف من الموت، ولا كتاب الموت لابن أبي الدنيا، وعند ذكر الغربة لا يذكرون “أدب الغرباء” للأصفهاني، ولا رسالة الغربة الغريبة للسهروردي، ولا حتى غيرها من النتف والمتفرقات.
ويعتقد أن ما حدث للغرب حين أهمل الفيثاغوريات والأفلاطونيات، حدث كذلك للحكيمات العربيات، من إهمال لكتابة سيرهن وتدوينها، وعدم التأليف فيها وإخراجها للناس.
ويؤكد أنه مثلما علّمت ديوتما الحكيمَ أفلاطون معنى “الحب الدنيوي” في محاورة “المأدبة” فنُسبت النظرية إليه ونُسيت المعلمة، كذلك علّمت رابعة العدوية الجنيدَ معنى “الحب الإلهي” فكان ما كان، أما فاطمة بنت أحمد بن يحيى فكانت تستنبط الأحكام الشرعية، فيما كانت فاطمة النيسابورية تتكلم وتعظ في معاني القرآن، وما أكثر الجواري اللواتي أبدعن في الثقافة العربية إبداعاً، وتفنَّنْنَ في الشعر والغناء تفنناً.
ويوضح الشيخ أن إبراز الإسهام العربي في مجال الحكمة لا يعني الانكفاء على التراث وجعل العرب أمة تراثية بلا مدافَعة وأن يصير أفرادها كائنات تراثية بلا منازعة، بل يعني تثمير الجانب الحي من هذا التراث. إذ يتضمن كتاب التراث العربي حكمة لا كفاء لها. أما فيما يتعلق بالحديث عن “حمقة العرب”، فإن لكل شعب حمقته، مثلما أن لكل شعب حكمته.
ويشير إلى أن أبا حيان التوحيدي رأى أن الأمم كلها شركاء في العقول، وإن اختلفت في اللغات، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص موجودة في جميع الخلق. ومثلما لا يجوز الزعم بأن العرب وحدهم كانوا حكماء، كذلك لا يجوز أن ننزع عنهم كل حكمة.
ويلفت النظر إلى ما يتضمنه التراث العربي من آفاق انفتاحية -لا انكفائية- تجعله يحتل بحق مكانة متميزة في التراث العالمي، ويكون عدة وعوناً على مواجهة موجة العولمة الثقافية العاتية، فالتراث العربي يزخر بإمكانات فذة وفرص بديعة وانفساح آماد شاسعة، نجدها ليس في التراث الذي استُهلك وكاد يُقتل بحثا، وإنما في التراث المنسي والمهمش والمتهم والمستبعد.
ويرى أن ما من حكمة إلا وقد بُنيت على تصور معين للإنسان، وهي، كائنة ما كانت، نظر في الإنسان أيا كان، حتى وإن هي لامته أو انتقدته أو عنفته. ويقول إن من الحكماء العرب من تمكنوا أن يبزّوا بكتاباتهم وحكمهم إسهامات حضارات أخرى، فمن حكم العرب أن الإنسان مؤلّف من أخلاط ومركَّب من طبائع ومتضادات، لا هو ملاك ولا هو بهيمة، وإنما هو كائن بيني له من النقائص قدر ما له من الكمالات.
ويتحدث المؤلف عن موقف حكماء العرب من الغير، وهل نقصيه أم ندنيه؟ نسامحه أم نقاتله؟ مشيراً إلى أن “الغير” قد يكون صديقاً وقد يكون غريباً، ويتساءل: من هو “الغريب”؟ أهو الغريب عن وطنه أم الغريب في وطنه؟ مؤكدا أن الغريب في معظم الثقافات الإنسانية كان منبوذاً، ولم تكن الثقافة العربية ببدع من ذلك، لكن للعرب تقاليد في الإحسان إلى الغرباء، فمنهم من لا يؤوي إلا الغرباء، ومنهم من لا يعلم إلا الغرباء، ومنهم من لا يكرم إلا الأدباء الغرباء.
ويضيف بأن العرب ميزوا بين الغربة عن الوطن، و”الغربة عن الزمان”، إلى جانب “الغربة عن النفس” في عرف المتصوفة، غير أن من شأن الغربة أن تُشعر صاحبها بالوحدة.
ويؤكد المؤلف أن الثقافة العربية، كانت خلافاً لما ظن بعضهم، ثقافة احتفاء بالحواس، وما كانت ثقافة العقل وحده ولا ثقافة النقل وحده، ولطالما وقف حكماء العرب عند الحواس الخمس وملذاتها، وأعجبوا بعملها وعدُّوها من المعجزات الشاهدة على عظمة الخلق وجلال الخالق، وألفوا فيها تآليف شتى، ووضعوا لها آدابا وسلوكا.
ويتحدث المؤلف عن حب العرب للقراءة، حيث بلغ حبّ الكتاب بالعرب أن أقاموا له أسواقاً، وأنشأ بعض حكمائهم في حب المعرفة نصوصاً فريدة، مؤكداً أن للقراءة – كما الكتابة- موقعاً مميزاً في ثقافتنا العربية، فالحكيم العربي عاشق للعلم، نديمه الكتاب، نسخاً أو مطالعة، بل ويسافر من أجله.
Prev Post
Next Post