بين تساهل حكومي وتواكل مجتمعي
قضايا وناس / جهاد الحكيم
من جديد عاد تراكم القمامة إلى أكوام، لا ينافسها بروزا للعيان وانتشارا في كل مكان سوى حطام المنازل والمرافق التي أحالها قصف العدوان إلى ركام .. لكن لماذا؟ .. ما هي أسباب هذا؟ .. من المسؤول عن تراكم النفايات في شوارع العاصمة وأزقة أحيائها وحاراتها؟! .. وما دور منظمات المجتمع المدني، ودور الأهالي أنفسهم حيال الأمر .. ذلك وغيره ما يتقصاه هذا التحقيق:
أكوام هنا وهناك ترقى إلى التلال .. مشاهد تنفر منها الأعين، وروائح كريهة لا تحتمل، تنتشر في الأجواء .. شوارع رئيسة وجزر وسطية أكتست يوما بالخضرة، أضحت مليئة بأكياس القمامة المتراكمة وقذارة المخلفات المتناثرة بعدما نهشتها الكلاب والقطط حد التخمة لدرجة أنها عفتها وزهدتها لكثرتها !!.
حال لا تسر لأحياء العاصمة وشوارعها بلا استثناء، فسيارات جمع المخلفات لم تعد تمر على الأحياء والشوارع لرفع المخلفات، وفقاً لمرأى العين وشكوى المواطنين، تاركة القمامة تتكدس على أبواب المنازل أو على أركان الأحياء، وتنذر بكارثة بيئية وصحية. في ظل صمت مطبق على الجهات المعنية كأن الأمر ما عاد يعنيها !.
لا تجاوب !!
أمين عبدالله قائد، أحد سكان مديرية آزال، قال في حديثه لنا أن “سيارات النظافة لم تعد تمر على المنازل كما في السابق لجمع المخلفات”. وتابع: “تواصلنا مع المجلس المحلي للمديرية مرارا من دون أن نجد آذانا صاغية أو تجاوبا مع تساؤلاتنا عن الأسباب وشكاوانا اليومية من الآثار السلبية على حياتنا”!.
أمين (38 عاما) أشار إلى أن تقصير مكتب النظافة في حيهم بمنطقة نقم مديرية آزال، جعل منزله محاطاً بأكياس القمامة، وأضاف: “لقد أدى هذا إلى انتشار الكلاب والحشرات ما اضطرني لرفع المخلفات من أمام منزلي على حسابي الخاص، تجنبا للخطر على عائلتي”. وأردف: “لكني قطعا لا استطيع ذلك دائما”.
ما الأسباب؟!
فعليا تراكم القمامة ليس الأول وظل ظاهرة تبرز وتغيب. سبق أن برزت أكوام القمامة في الأحياء والشوارع بداية العدوان السعودي المتواصل على اليمن. وقد أرجعت الجهات المعنية حينها الأسباب إلى انعدام مشتقات النفط لشاحنات المخلفات وعمليات تدويرها واحراقها بفعل الحصار المفروض من العدوان على اليمن.
لكن أزمة المشتقات النفطية لم تعد بذلك الاستحكام، ما يدعو كثيراً من المواطنين للتساؤل عن أسباب عودة تراكم القمامة. من هؤلاء بلال الحيمي (30 عاما) تساءل عن سبب تردي خدمة النظافة في العاصمة بأكملها والأحياء على وجه الخصوص، وعن التزام الجهات المعنية بالصمت حدا يصرح باللامبالاة.
يقول بلال: “أزمة المشتقات النفطية التي كان يتحجج بها مسؤولو النظافة في الفترة الماضية جراء حصار العدوان السعودي، لم تعد موجودة، والمحروقات أصبحت متوفرة وتتكفل الدولة بتوفيرها للمكاتب الخدمية في العاصمة، مع ذلك لا أحد يعلم الأسباب لعودة تراكم القمامة ولا حال مخصصات الوقود لشاحنات النظافة”!!.
أجور العمال
بدورنا حاولنا البحث عن إجابة لدى الجهات المعنية .. وهناك وجدنا أن الأمر هذه المرة لا يرجع إلى انعدام المشتقات النفطية بل إلى المستحقات المالية للطاقات البشرية العاملة في نظافة العاصمة صنعاء، وعدم انتظام صرف مرتبات عمال النظافة من شهر إلى آخر. وبخاصة من لا يزالون منهم بنظام التعاقد والأجر اليومي وهم الغالبية.
يرجع فواز حميد تردي خدمة النظافة في العاصمة صنعاء إلى “تأخير صرف مرتبات عمال النظافة ومماطلة تسليم حقوقهم فهذا يصيبهم بالإحباط”. كما قال، مضيفا: “الإضرابات المتكررة لعمال النظافة بسبب عدم صرف حقوقهم، ساهم ويساهم بصورة رئيسة في تكدس القمامة في شوارع وأحياء العاصمة”.
يتفق فواز مع أمين في أن استمرار بقاء شوارع العاصمة وأحيائها على هذا النحو من تراكم القمامة “يسيء لها ولتاريخ مدينة حضارية وعاصمة سياسية” يرى وجوب أن “تظل هي الأجمل” ويفترض “تكريس جهود الجميع والإمكانات المتاحة للمحافظة على الوجه الحضاري المشرق للعاصمة صنعاء والمشرف لجميع اليمنيين”.
كارثة بيئية
لا تقتصر الآثار السلبية لتراكم القمامة على المنظر المقزز ولا على الروائح الكريهة المنفرة والمزعجة، بل يتعدى ذلك إلى آثار بيئية وصحية عامة تتهدد مقومات الحياة في العاصمة حدا يدعو المتخصصين إلى التحذير مما يسمونه “كارثة بيئية وصحية ” قد تحل بالعاصمة صنعاء وسكانها المناهز تعدادهم الثلاثة ملايين ونصف.
من هؤلاء الدكتور بشير يوسف، يحذر من أخطار جسيمة لاستمرار تراكم المخلفات وتحللها في الشوارع والأحياء، على صحة الإنسان، موضحا أن “تراكم القمامة وتحللها في الشوارع جراء بقائها تحت أشعة الشمس ، يوفر بيئة ملائمة لتكاثر البعوض الناقل لأخطر الأمراض ومن بينها حمى الضنك المنتشر في غالبية المحافظات”.
ليس هذا فحسب، يتابع الدكتور بشير: “كما أن الذباب يمكن أن يحمل ملايين العُضويات المجهرية التي تسبب الأمراض عندما يحط الذباب على طعامنا أو شرابنا فيُصاب البشر بأمراض مميتة أبرزها التيفوئيد، الزُّحار، الكوليرا، وأمراض جلدية عدة. إضافة لنشر التراخوما وهو الذي يصيب العينين بخدش القرنيَّة ويعد السبب الرئيس للعمى عالميا”.
قمامة وأمطار ..كارثة الأثافي !!
ما سلف ليس كل الأخطار المتوقعة لتراكم القمامة خصوصا مع هطول الأمطار يجعل العاصمة أمام “كارثة الاثافي” حد وصف عبدالله صلاح. أفاد لنا بقلق لا يخفيه أن أكثر ما يشكل خطراً على العاصمة جراء تراكم القمامة، هو هطول الأمطار وجرفها للقمامة المتراكمة في الشوارع وسدها مجاري تصريف السيول”.
يقول صلاح: “يزيد هطول الأمطار وجرف السيول أكوام القمامة الأخطار الصحية، فمثل هذا يوفر بيئةً أمثل لتكاثر الحشرات وبويضات البعوض خاصة البعوض الناقل لأفتك الأمراض وأخطرها”.. وأردف: “كما أن إحراق المخلفات في الشوارع لا يقل خطرا عن تراكمها لما تسببه الأدخنة من أمراض خطيرة أيضا”.
تواكل مجتمعي
في مقابل هذه الحال التي لا تسر أحدا وهذه الأخطار البيئية والصحية العامة المترتبة على تراكم القمامة وجرف سيول الأمطار لها، يبرز السؤال عن دور المجتمع المحلي بشقيه المدني المؤسسي والأهلي الفردي في تلافي ما أمكن تلافيه من هذه الأخطار وإيجاد حلول إسعافية تمنع البلاء الذي يتهدد الجميع أفرادا وجماعات.
عند تقصي هذا الدور حيال هذه القضية وجدنا مبادرات هنا وهناك، بعضها مدنية والبعض أهلية فردية. لكنها رغم فاعليتها وجدواها تفتقد إلى مقومات الاستمرارية من ناحية والتجاوب الجمعي العام على نطاق واسع في المجتمع في ظل غلبة ما يسميه متخصصون بشؤون المجتمع “حالة التواكل والتلاهي عن الخطر بما هو أخطر”!.
مبادرات محدودة
من بين هذه المبادرات الأهلية المحدودة لحل مشكلة تراكم القمامة، يذكر لنا عبدالله صلاح مبادرته وعدد من الأهالي إلى “تنظيم حملات نظافة متكررة لرفع القمامة والمخلفات من حينا إستشعارا لأخطار بقائها في الشوارع وعلى أبواب المنازل. لكن الأمر يتطلب نفقات نقل لا يستطيع الأهالي توفيرها دائما”.
يرى صلاح، كغيره من المواطنين، أن “حقوق عمال النظافة مسألة غير قابلة للتأخير”. ويضيف:”هؤلاء يبذلون جهوداً كبيرة لإظهار العاصمة بالوجه الذي يليق بها، ونأمل أن يولي أمين العاصمة عمال النظافة اهتماماً خاصا ويوفر مستحقاتهم لأداء مهامهم على أكمل وجه”.. مشيراً إلى أن “استمرار الخدمات يمثل رسالة صمود للشعب اليمني الأبي في وجه العدوان السعودي البربري”.
تكامل مطلوب
ما سلف يخلص إلى أن الحل السريع لمشكلة تراكم القمامة في الشوارع والأحياء يوجب تكاملا تاما بين الجهات الحكومية المعنية والمجتمع المحلي بشقيه المدني والأهلي .. كل فيما يخصه من واجبات، أداؤها وحده يضمن أسباب الحياة اللائقة والمحصنة من أخطار بيئية وصحية كارثية لن تستثني أحدا.