غالب على جميل فقيد الدبلوماسية اليمنية

السفير/ أحمد حسن بن حسن

في الأيام القليلة الماضية حملت لنا الوسائل الإعلامية خبر وفاة الأستاذ بكل ما تعني هذه الكلمة غالب علي جميل  الذي كافح وتغرب ودرس ليصل إلى ما وصل إليه . ليتبوأ من المناصب الرفيعة فقد درس في المدرسة الاحمدية بتعز في بداية الخمسينات . وهاجر إلى السعودية إلى عند صهره قحطان وأخته في منتصف الخمسينات ليعمل مطوفا بالحرم المكي . وتتلمذ على يد زكي يماني والد أحمد زكي يماني وزير البترول السعودي المعروف وأشهرهم . لينتقل إلى سلك التعليم ليعمل مدرسا ولكنه في أحد المرات ضرب تلميذا بليدا وحينها كان الملك فهد كان وزيرا للمعارف فتقرر طرده وليست بتلك الحجة وإنما بحجة أنه يكاتب النعمان إلى القاهرة زعيم حركة الأحرار اليمنيين . وأنه من المفترض  وبموجب اتفاقية الطائف يجب تسليمه إلى حكومة الأمام أحمد ولكن خيروه أن يختار مكانا آخرا  . فاختار مصر وتم ترحيله  وإلى القاهرة في أواخر الخمسينات — ولكن شاءت الأقدار أن يعود إلى السعودية مرفوعا الرأس كسفيرا لبلاده وضمن فترة عمله هناك عمل في أحلك الظروف فترة غزو العراق على الكويت وادارها بكل حنكة وحكمة ودبلوماسية   وفي القاهرة أكمل الثانوية ودخل كلية التجارة.  وانخرط في حزب البعث واجتاز السنة الأولى وشارك في الإضراب  الطلابي الذي جرى بالسفارة اليمنية بالقاهرة  في العهد الملكي التي كان يترأسها إسماعيل يحيى حميد الدين  . ليحصل بعدها على منحة إلى الولايات المتحدة في بداية الستينات  . ليتخرج في منتصف الستينات . ويعمل في وفد اليمن بالأمم المتحدة مع دولة الأستاذ محسن العيني الذي كان يشغـل منصب السفير والمندوب الدائم ويجمعهما عامل مشترك هو حزب البعث والأخير من مؤسسي حزب البعث في اليمن  . وعندما انتقل السفير محسن العيني إلى موسكو  . بعد فترة انتقل أيضا غالب إلى موسكو معه .
وفي بداية السبعينات يعود إلى أرض الوطن ويشغل منصب وكيل لوزارة الخارجية مع وكيل آخر هو المرحوم الأستاذ والفنان علي أحمد الخضر وكانت الوزارة الوحيدة بوكيلين . فيعين الأستاذ عبدالله الاصنج وزيرا للخارجية للمرة الأولى  ويلغي المنصبين ويعين غالب سفيرا في بغداد  وعلي الخضر في روما . ومما تم تداوله في هذا الموضوع في حينه أنه قيل للاصنج لماذا غيرت الوكيلين وهما يتحدثان اللغة الانجليزية بطلاقة بحكم تخرجهما من الولايات المتحدة ومن الصعب أن تجد الآن بديلا لهما يتحدث الانجليزية مثلهما  فكان رده خفت ليقولوا  علينا مثل المثل المشهور مغني بجنب اصنج وبالطبع هذا من نوادر الأستاذ الاصنج فقد كان  الهدف آخر  هو  غرض في نفس يعقوب.
ثم انتقل السفير غالب من بغداد إلى  المغرب في نهاية السبعينات و لكن قبل المغرب كان قد أرسلت أوراق ترشيحه كسفير في بون بالمانيا في أواخر أيام الرئيس الحمدي وجاءت الموافقة في عهد الرئيس الغشمي وتم إلغاء التعيين وتعيين السفير محمد عبدالقدوس الوزير في بون  . وفي 1981 عين كنائب لوزير الخارجية وحينها كان الوزير الأستاذ القدير علي الثور وعملت مع غالب  كمدير لمكتبه في حينه . وفي عام 1983م عين سفيرا في باريس ومن ثم في أواخر الثمانينات سفيرا في السعودية ولفترة طويلة . ليعود إلى الداخل وليتبوأ منصب وكيل الوزارة للشئون السياسية مع قريبه عم زوجته دولة د. عبد الكريم الارياني ناءب رئيس الوزراء وزير الخارجية .
وفي هذه الفترة كان  له باع كبير من النشاط الدبلوماسي في حينه أهمها  في انضمام اليمن إلى منظمة الدول المطلة على المحيط الهندي وكذا مساءلة النزاع اليمني الاريتري على جزيرة حنيش وهو الذي اقترح على رئيسه الوزير د. الارياني  الذي كنت اعمل معه في مكتبه  بارسالي عند بداية هذه الأزمة إلى اريتريا لتولي منصب القائم بالأعمال في ابريل 1996م بعد سحب سفيري البلدين من كل من صنعاء واسمرا وآخر منصب له كان مستشارا لوزير الخارجية .
الأستاذ غالب عرفته منذ حوالي  أربعة عقود في آواخر السبعينات من القرن الماضي . حيث اختارني بالاسم لكي أعمل معه في السفارة في بغداد وقدم طلبا بهذا الخصوص إلى أستاذ الدبلوماسية  وزير الخارجية في حينه عبد الله الاصنج  . وصدر قرار التعيين في أكتوبر 1977م  . لأصل إلى مقر عملي في بغداد في يوم استشهاد الرئيس الحمدي في 11 أكتوبر 1977م وقامت السفارة بتنكيس أعلام وفتحت باب العزاء المناسبة الأليمة التي حلت بالوطن في اليوم التالي .
وبعد أشهر يتم اغتيال الرئيس الغشمي وقامت السفارة بنفس الإجراءات وكانت السفارة أيضا قد قامت بذلك بأشهر مضت عند اغتيال النعمان الابن في بيروت والقاضي الحجري ومن معه في لندن ولهذا سمعت السفير اللبناني المعروف سهيل شماس رحمه الله يمازح الأستاذ غالب قائلا له كثرت مناسبات التعازي في سفارتكم وشربنا القهوة  كثيرا فمتى تعمل السفارة لنا حفل استقبال ونشرب مشروبا  . والسبب أن السفارة لم تقم بذلك لضآلة ميزاينيتها حيث كانت لا تتعدى 15 ألف ريال شهريا  وتتضمن الإيجارات لأن الإيجار رمزي من مباني الحكومة العراقية المصادرة على اليهود الذين هربوا إلى إسرائيل في منطقة المسبح ببغداد .وقد رافقته في عام 1982م في رحلة رسمية لتسليم رسائل شخصية إلى قادة كل من على التوالي الإمارات وقطر والكويت في موضوع مساعدة الشطر الشمالي لما يلاقي من مشاكل وإثارة القلاقل من الشطر الجنوبي في المناطق الوسطى وكان في طرحه للموضوع مع قادة هذه الدول وخاصة الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله محل احترام وإعجاب لدرجة أن الشيخ زايد كان  يتهامس معه في بعض المواضيع التي لا يريد أن يسمعها الحضور وعرفت منه فيما بعد انها كانت تخص العلاقات اليمنية السعودية .
كان دمث الأخلاق وحسن المعشر لا يغضب إلا نادرا . حساس وعلى ما أذكر كان الأخ أحمد الارياني مدير الإدارة السياسية والأستاذ غالب نائبا لوزير الخارجية وكان الأول يريد منه توجيهاً بتوظيف أحد أقربائه إلا أنه كان  يشعر بالحرج لو أعطى التوجيه بحكم أنه متزوج من نفس الأسرة وسيتم تأويل الموضوع بالوزارة بالرغم من أنه يعرف أن الشخص المطلوب توظيفه مؤهل فرفض . فرمى الأخ أحمد ورقته في وجهه وخرج من المكتب غاضبا ومع هذا لم يحرك ساكنا وكان رد فعله الابتسامة  . وهذا الشخص قد قبل وأصبح سفيرا بالوزارة .
وشاءت الأقدار أن يأتي إلى بغداد في تلك الفترة بعض الرموز الوطنية كلا جئين سياسين من الوطن وعلى رأسهم دولة الأستاذ محسن العيني ود. عبد الوهاب محمود ويحيى مصلح وكان تعامل الأستاذ غالب معهم وخاصة أمام رئيسه وأستاذه السابق ومتبنيه وداعمه الأول الأستاذ العيني الذي كان معرضا للاغتيال في القاهرة وأبو ظبي فانتقل إلى بغداد . تعامل معهم بكل الود والاحترام والأخوة الصادقة مع ان العرف الدبلوماسي لا يقر علاقات بين لاجئين سياسين وسفارة بلادهم . بل كان قد وجهني بتوقيع عقد الإيجار الخاص بالأستاذ محسن العيني أمام مؤجريه حتى لا يعرف ويشاع عن الساكن الحقيقي لدواع أمنية  .
ولقلة الخريجين و الجامعيين المؤهلين إلى ما بعد الثورة وحتى  السبعينات  فكان الأستاذ غالب يحاول ترغيب الخريجين في الالتحاق بالخارجية وخاصة وأن أغلب موظفيها كانوا غير ذلك، فمثلا الأخ السفير أحمد كلز ذهب إلى الوزارة لتعميد شهاداته والتقى به صدفة  فأقنعه بالالتحاق بها بدلا عن الهجرة إلى الولايات المتحدة.
الأستاذ غالب رجل إنساني بدرجة أولى ووفي مع أسرته وأصدقائه وزملائه فعندما توفي زوج أخته المغترب بالسعودية تولى برعاية الأسرة كاملا ودرس كل أولادها بل ابنتها عاملها أكثر من بناته وخاصة وإن لم يرزق بالبنات إلا متأخرا . وقام الأستاذ غالب ببناء غرفة كبيرة مع توابعها خلف بيته قرب جولة الرويشان وجعلها سكنا لكل من أتى من أقاربه وأهل قريته الاكروف بالعدين للالتحاق بالدراسة بصنعاء بل وظف الكثير منهم بالوزارة .  تشجيعا منه لهم بالدراسة ومن ثم تحمل مسؤولية أنفسهم وأسرهم الذي يعرف أحوالها المزرية تماما .  من خلال نظرته أن التعليم وحده يصل الإنسان لتحقيق أهدافه مثلما هو عمل لنفسه وذاته وقام به لأولاده . وعلي سبيل المثال .
ففي 1977 ابنه البكر لؤي  الذي أصبح دكتور أسنان كان قد التحق بالمدرسة في بغداد لأول مرة وكان الأستاذ غالب  فرحا ومسرورا لذلك .  وبعد أيام قليلة سأله ماذا تعلمت يا ابني فردد عليه شعار البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) فأجابه للتندر مش وقت هذا الكلام يا أبني  بدري عليك تدخل عند خميس . يقصد رئيس الجهاز الوطني للأمن الذي كان في وقته مرعباً لكل حزبي أو حزب سياسي،
كان وحدويا يؤمن بالوحدة اليمنية القائمة على المواطنة المتساوية والعدالة بين الجميع . ففي السفارات التي عمل فيه كان  على اتصال دائم مع إخوته في سفارات الشطر الجنوبي من الوطن . ليقوم بإقامة حفلات غداء أو عشاء لنظرائه السفراء ومع بقية الموظفين وعائلتهم بصفة مستمرة . ولا أنسى العلاقة الحميمة التي كانت تجمعه مع السفير عبدالحافظ قائد  سفير الشطر الجنوبي من الوطن في حينه في بغداد والذي يعتبر من مؤسسي حركة القوميين العرب بالرغم من أن كل منهما اتجاهه السياسي المختلف . فالأخير من حركة القوميين العرب والأول بعثيا بل كان قد شغل منصب وكيل  وزارة الإعلام في الشمال قبل انتقاله الى الجنوب  .
ويحزنني أن المرض الذي عانى منه مؤخرا ولأعوام أحال أن يترك لنا الأستاذ غالب ذكرياته التاريخية وخبرته الطويلة في الحياة العملية وخاصة في السلك الدبلوماسي .
رحم الله فقيد الوطن بشكل عام وفقيد الخارجية والدبلوماسية اليمنية بشكل خاص الأستاذ غالب علي جميل وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان .  تعازينا الحارة إلى أولاده أبنائي دكتور الأسنان لؤي والمهندس عمار وأسعد وبقية أفراد الأسرة الكريمة .
وإنا لله وإنا إليه راجعون

* رئيس دائرة التوثيق والمعلومات بوزارة الخارجية

قد يعجبك ايضا