عبدالسلام عباس الوجيه
هذا هو الشاعر الكبير والأديب الإنسان علي عبدالرحمن جحاف غرِّيد أرض الجنتين، الصادح بالحق، الحامل لِهمِّ اليمن والعالم العربي والإسلامي، والحامل لِهمِّ الإنسانية جمعاء، بكى على المستضعفين في جنوب أفريقيا وفي أقاصي أمريكا اللاتينية، وتألم لآلام الجياع في أفريقيا، وعبّر عن معاناة المستضعفين في شتى أنحاء العالم الإسلامي وفي مقدمتهم منكوبو فلسطين، ومشردو سوريا، وضحايا الهمجية والعدوان الوحشي في العراق وليبيا وأفغانستان وبروما، وحيث ما وجدت الآلام والأحزان والنكبات تجد قلب علي عبدالرحمن جحاف ينبض بالحب والحنان، ويتشظى ألماً وحُرقةً وثورةً على الطغاة والمستكبرين، لا تكاد تجد قصيدة من قصائده، ولا مقطوعة من كتاباته المميزة إلا وفيها تعبير عن صرخة مظلوم، وحنين مغترب، ولهفة أم ثكلى، وأنين أب مكلوم.
هذا هو الشاعر الإنسان بكل ما تعنيه الإنسانية، لا يعرف قدره ومكانته وعلوه وسموه إلا من قرأ أدبه وشعره، ولا يعرف صفاته الأخلاقية، ورقته وبشاشته ودماثة أخلاقه وحنانه وعطفه ونبله وشهامته وصدقه ووفائه ونزاهته وعفته إلا من صحبه وعايشه واقترب منه.
ومحالٌ محال أن نجد الكلمات والعبارات التي تفيه حقه، جمع مكارم الأخلاق، وحميد الصفات، والأدب الرفيع، عبر عن الإنسان وآلامه وهمومه، وشدا بقصائد كانت: رياحين آذار، وكاذي شباط، وفل نيسان، وورود تشرين، وأزاهير الدنيا أثرت الأدب اليمني والإنساني، وعبرت عن ضمائر الأحرار في كل أقطار الدنيا.
ماذا عساي أن أكتب عن هذا الإنسان العظيم الذي فارقنا فأوحشنا فقده، وأزرى بنا فراقه، فأصبحنا غرباء في وطن يتعرض لأبشع عدوان همجي ووحشي؟.
ماذا عساي أن أقول: وأنا الخالي الوفاض عن شاعر في حجم شاعرنا الكبير الذي عرّف به وقدمه إبداعٌ تجلى في روائع القصائد الحمينية التي كتبها بأكثر من لهجة، وتغنت بها الشفاه في الريف والحضر، وطرب لها الأمي والمثقف.
من منا لم يسمع “واطاير امغرب”، ومن منا لم يتغنَ ويترنم بعشرات القصائد والموشحات التي صاغها قلمه الرشيق.
أما عن شعره الحكمي الفصيح فهو ذلك الشعر الذي تجد فيه الأصالة والصدق وعمق التجربة، ونقاء الفكر، وصفاء العاطفة، وحرارة الانفعال، ورقة الإحساس، وشفافية التصوير والخيال، وجودة التعبير عن الأفكار، وجمال الصورة الموحية، فهو شعر يتفرد بالجمال، ويتميز بوضوح الفكر والمضمون، وبالصورة الفنية الأخاذّة، والمعنى المشرق الوضاء الذي يشد القلوب، ويؤثر في النفوس، ويبعث المتعة، ويحرك الوجدان، ويعبر عن ضمير الأمة، ويترجم آمالها وآلامها وأحلامها، ويجسد كل المعاني الخيرة في الإنسان؛ لأنه نابع من وجدان سليم، وذات مؤمنة، وضمير حي، وخيال بناء، وعواطف مستقيمة، وتصور صحيح استوعب دوره في الحياة المتجددة والمتطورة، ونفس حرة وذات صادقة لا تزيف الحقائق ولا تحابي الضلال، ولا تعرف النفاق.
شاعرنا الكبير علي عبدالرحمن جحاف اختار لنفسه الصدق وبقي متوافقاً ومنسجماً مع روحية وفكر الجماهير التي يخاطبها، فلم يحاول اللحاق بركب المنفعة، والوقوف في صف المتاجرين بالأدب والشعر، واختار الوضوح فلم يحاول الاحتماء بغابات الإبهام والغموض السوداء للإفلات من جحيم الحصار، كما فعل البعض ممن أغرقوا في الرمزية فتقوقعوا في عالم خاص بهم، وفقدوا الصلة التي تربط بينهم وبين الآخرين.
ومن هذا الباب تحدث عن الغزل المكشوف الآتي على سبيل الدعابة والفكاهة والطرفة وإلا فهو أطهر من الطهر، ولا يكاد يرقى إلى إيمانه وعفته وطهره أحد، بل هو من كان واقعياً ومنصفاً في نظرته للمرأة لا يخدعها ولا يسمم أفكارها، ولا يلهب عواطفها، ولا يحرضها على التمرد، بل يسمو بها ويرفعها ويضعها في مقامها الرسالي الأمثل، بعيداً عن الإثارة والإغراء والتضليل، يقدم لها الحب في إطاره الحقيقي، وليس في إطار زائف، يفرق بوضوح بين الحب الحقيقي والعشق، والغاية من كل منهما، ترى ذلك واضحاً في قصيدة “لا يا صديقي ليس هذا هو الحب الحقيقي”، وهو عندما يحبها يحبها للعفاف، وللقلب التقي كما في قصيدة “لماذا أحبك”، وهو يراها في صورتها المثلى كأم وابنة وأخت وزوجة، ويجسد في شخصيتها الطهر والنقاء والعفاف ويدعوها إلى التمسك بالقيم التي تدفعها إلى مقاومة الإغراء وتجنب السقوط في وحل الحرية الآثمة.
ماذا أقول عن علي عبدالرحمن جحاف الصديق العزيز الوفي المتواضع صاحب القلب الرفيع الذي صحبته أكثر من ثلاثة عقود كان فيها الأخ والأب والأستاذ والمثل والقدوة، وكان بحبه وصدقه وإخلاصه ووفائه وحكمته وإيمانه وصبره، ملجئي إذا اشتد الضيق، وادلهمت الأحداث، أجد في كلماته ومواساته وابتسامته الراحة والسلو والقناعة والرضا، فهو الملاذ والسلوى والقلب المتدفق حباً وعاطفة رغم شدة فتك المرض به، وانشغال قلبه وفكره بهموم الأمة، وقربه من آلام من حوله.
فلقد كنت في الحقيقة أحيا
حاملاً غربتي معي في ثيابي
غير شاك ما بي لشخص قريبٍ
أو بعيدٍ كي لا أروع صحابي
بالذي بي من غربة وانشطارٍ
وعذابٍ ومحنةٍ واكتئابِ
لا يرجو سوى أن لا يحزن أحبابه، حريص على أن ينعموا بالفرح والسرور حتى بعد رحيله، بل يطمئنهم أنه وإن فارقهم سيظل قريباً منهم، ملتمساً فقط دعوة صادقة له بالعفو والرحمة.
فاسألوا الله يا أحباء قلبي
لي بالعفو في أوان مآبي
ودعوا الحزن أصدقائي إني
أرفض الحزن في احتفال مصابي
فاضحكوا وامرحوا بكل سرورٍ
فأنا بينكم برغم غيابي
إن يكن غاب عنكم شخص جسمي
إن روحي من جمعكم في اقترابِ
لكنه بحق أوحشنا فراقه، وشعرت بغربةٍ لا أستطيع التعبير عنها، من لي بهذا الصديق الذي غيبه الثرى، فانقطعت تلك الدعوات التي كان يخصني بها في أعقاب الصلوات وفي ليله ونهاره الذي لم يفارقه فيه المصحف الشريف والصحيفة العلوية والصحيفة السجادية.
من لي بهذا الصديق الذي إن جئته كساني من طيبته وبشاشته وحبه حللاً زاهية، وإن غبت سأل عني وتواصل بي وافتقدني.
أشعر دائماً أني المعني مع أولاده في قصيدته تلك “أوصيك يا ولدي” التي يقول فيها:
أوصيك يا ولدي الحبيب إذا قرأت وصيتي
من بعد يحتضن التراب رفاتي
لا تسكب الدمع الغزير عليَّ إني لم أزل
باقٍ وإن فقدت عيونك ذاتي
روحي ترفرف حول مهدك إنها
ولدت –إذا قيل انتهيت- حياتي
فإذا ذكرت الله فاذكرني
تجدني بعد كل صلاةِ
فامدد يديك إلى الذي فلق النوى
في دعوة ترجو بها لي الخير بعد وفاتي
فإذا غفوت فإن روحي في الكرى
تمتد نحوك حلوة اللمساتِ
أوصيك يا ولدي بذكر الله
في الملقى وفي الخلواتِ
فإذا شكوت رفعت ما بك للذي
في كفه تفريج كل شكاةِ
لاتستفزك عنه دعوة ماردٍ
خصم يقاوم كل ذي حسناتِ
واعلم بأن الله يغفر كل ما
تأتيه من ذنبٍ ومن هفواتِ
سلام عليه وقد ارتقى إلى جوار ربه مؤمناً تقياً زاهداً ورعاً صابراً محتسباً.
سلامٌ عليه ما أمر فراقه، وما أوحش الدنيا بعده.. رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وعظم الله أجر الجميع.