الحروب أوجدت اصطفاف مجتمعي في جبهات متقابلة


محمد يحيى عزان –
لا شك أن في قراءة مشكلة صعدة تداخل بين الماضي والحاضر وبين السياسي والفكري والقبلي ولها كثير من التفاصيل والتعريفات ولكل تفريع علل وأسباب ولكل متابع للأحداث وتطوراتها وجهة نظر.
ومن ذلك أن الأوضاع في صعدة بعد قام ثورة 1962م كانت مهيأة للانتقال بالمجتمع إلى طور جديد من خلال تحديث وتصحيح مفاهيم السياسة ونظام الحكم وضخ المعارف المختلفة لتقويم عملية التعليم. إلى جانب تنشيط حركة التنمية الاقتصادية والتواصل المجتمعي لإخراج الناس من عزلة الماضي وإشراكهم في صناعة المستقبل. غير أن ذلك لم يتم بالشكل المطلوب نتيجة أخطاء سياسة أبرزها في نظري:
1 – غياب مشروع الدولة حيث لم تنفذ بشكل مباشر إلى المجتمع الأمر الذي رسخ ثقافة الواسطة بين المواطن والمسؤول وصار الناس يدينون لزعاماتهم بالولاء والطاعة دون مؤسسات الدولة لأنهم الذين يقربونهم إلى المسؤولين زلفى. مما ولد شعورا عاما بأن النظام لم يأت بجديد بل ربما صار أسوأ مما مضى حيث أصبحت مقدرات الدولة في يد الزعامات والوجاهات فهي صاحبة النفوذ وهي الآمر الناهي المسير لشؤون البلاد.
2 – بدأ كثير من المعينين للعمل في المحافظة وكأنهم لم يأتوا للقيام بدور وطني وتنفيذ برامج تنموية مدروسة بقدر ما أتوا ليمكنوا لأنفسهم ويصلحوا أحوالهم ويغنموا مما أفادت الدولة عليهم فارتسمت بذلك لدى المواطن أسوأ صورة للدولة حتى صار الناس لا يرون في عسكر الدولة إلا أنهم مصدر خوف وإزعاج وتضيق وملاحقة وأداة للقهر والإذلال. ولا يرون في مسؤوليها إلا أنهم متسلطون على أرزاق الناس متعدون على حرياتهم ولا في إعلام ومناهج وإرشاد الدولة إلا أنه مجرد غزو فكري مغرض.
3 – أن الدولة لم تركز بما يكفي على عملية التعليم والتنوير واكتفت بالتركيز على استهداف الخلفية الثقافية لأبناء المحافظة تحت مبرر اقتلاع جذور فكر الإمامة وضمان عدم عودتها.. مما تسبب في ردة فعل عاطفية وحالة استنفار غير معلنةº استطاعت أن تزهد الناس فيما يأت من أفكار ومعارف عن طريق مؤسسات الدولة وتقنعهم أنها مجرد مكائد ودسائس تستهدف دين الناس وعقدتهم وبذلك تشكلت حجبَ وحواجزِ أبطأت بل عوقت عملية التغيير ولم يتسرب النادرْ منú ورائها إلا بصعوبة بالغة.
ورغم ما لحضور الدولة من حسانات وما يحسب له من إيجابياتº إلا أن الأخطاء المذكورة بتفاصيلها وتبعاتها انعكست على كل شيء وجعلت الناس يكفرون بسياسة الدولة ويتعاملون معها على أنها أمر مفروض وبلاء يحسن الصبر عليه. الأمر الذي مكن بعض التيارات من تأجيج مشاعر الرفض والتذمر لدى عامة الناس وساعد على تهيئتهم لتقبل أي حركة مضادة لسياسات الدولة بل والبحث عن أي ركن يلجأون إليه للتخلص من ذلك الواقع.
وفي ظل تلك الأوضاع وقعت الحروب الأخيرة مع جماعة الحوثي مما أدى إلى جراح عميقة وشقة واسعة بين أبناء المنطقة أنفسهم ونتج عنها كوارث مهولة راح ضحيتها آلاف القتلى والمعاقين وتشرد عشرات الآلف من النازحين ودمرت آلاف البيوت والمزارع والمنشآت فضلاٍ عن الآثار النفسية والأخلاقية وتفكك العلاقات وتشرذم المجتمع واصطفافه في جبهات متقابلة.
وبالنظر إلى تفاصيل وحقيقة ما يجري على الأرض الآن فإن مواقف أهالي صعدة تجاه الوضع في منطقتهم مختلفة:
1. فمنهم فئة موالية للجماعات المسيطرة فهي ترى الأمر مستقراٍ ومناسبا وليس فيه أي مشكلة ويريدون بقاءه واستمراره أو تعديله بالكيفية التي يرونها مناسبة لهم. بل صار بعض المتعاطفين يرى ما يجري في صعدة نموذجاٍ يجب أن يحتذى.  
2. ومنهم فئة: متذمرة مما يجري كونه جاء بطريقة الاستحواذ والتغلب ويرون أن المسيطرين على المحافظة يسيرون الأمور حسب هواهم ويستغلون مقدرات المحافظة لفرض هيمنتهم وترسيخ وجودهم وفرض توجهاتهم الفكرية والسياسية. ويضيقون على مخالفيهم في كل شيء بحيث لا يجرؤ أحد على إنشاء مراكز أو تسيير مظاهرات أو انتقاد الزعامات الدينية والسياسية التي تتولى شأن البلاد.
3. ومنهم فئة ترى أنها غير معنية بما يقول المتنافسون على السيطرة والنفوذ ويكتفون بممارسة أعمالهم الخاصة ويزاولون تجارتهم ما دام يتوفر لهم الحد الأدنى من إمكانية الحركة ويرون أنه لا فارق بين هذا أو ذاك فالكل يجبي منهم ولا يقدم لهم شيئاٍ والكل يزعم أنه الأفضل ولا يبرهن على ذلك بشي على الأرض.
ومن معالجات آثار الحروب وتطبيع الأوضاع  لابد من تجاوز آثار وآلام الماضيº بمنظومة من الإجراءات العادلة والمنصفة للجميع والتي ينبغي أن تنفذها عدالة تنقل المجتمع إلى آفاق مستقبل مشرق مفعم بالتسامح والتعاون مصمم على حماية الوطن إنسانا وأرضا وفكراٍ لديه من الضمانات ما يطمئنه من الانزلاق إلى مستنقع الفتن ومتاهات الخصومة وآلام الحروب من تلك الإجراءات.
1. الحوار الجاد بمشاركة مختلف الأطراف المعنية ينتج عنه إعلان صلح عام تعتذر فيه مختلف الأطراف لبعضها وتغلق ملفات الحروب السابقة بكل تفاصيلها وتبعاتها ويلزم كل طرف إبلاغ اتباعه والزامهم بالصلح ورفع الغطاء عن أي مخالف والتأكيد على أن استعمال السلاح وممارسة العنف والتحريض إنما يفاقم المشكلة ويوسع دائرتها حتى يتضرر منها الجميع.
2. إطلاق صراح المعتقلين على ذمة الأحداث عند كافة الأطراف والكشف عن مصير المختطفين والمفقودين وحظر المعتقلات والسجون غير الرسمية وإسقاط جميع التهم السياسية الموجهة من الطرفين.
3. تعويض المتضررين – من أي طرف كانوا – بفقد أقاربهم وضياع أموالهم ودمار ممتلكاتهم وسائر الأضرار في ظل قانون العدالة الانتقالية وإعطاء الأولوية في الرعاية للمعاقين من جراء الحروب وإعادة تأهيلهم بما يمكنهم من حياة كريمة.
4. رفع المظاهر المسلحة من المدن والقرى والطرقات وحل مشكلة السلاح والجماعات المسلحة وبسط سيطرة الدولة على كافة أرجاء مناطق التوتر كشرعية وحيدة لتسيير شؤون المجتمع بجميع أطيافه في ظل الدستور والقانون.
5. حماية الأمن الوطني وسيادة البلد من التدخلات الخارجية واتخاذ المواقف المسؤولة للحيلولة دون استهداف المواطنين مهما كانت التهم الموجهة إليهم والاكتفاء بدور مؤسسات الدولة القضائية والأمنية على أن يسهل الجميع مهامها.
6. تمكن النازحين من العودة آمنين مكرمين دون قيد أو شرط وإرجاع ما أخذ أو نهب منهم وتعويضهم فيما أتلف إلى جانب استمرار رعايتهم من قبل منظمات الإغاثة حتى يستقروا في مناطقهم وأوطانهم.
7. إعادة الموظفين المبعدين قسراٍ أو خوفاٍ إلى أعمالهم وكذلك من تم نقلهم تعسفياٍ إلى محافظات أخرى إذا أرادوا ذلك وتعويضهم عما لحق بهم من ضرر وصرف كافة مستحقاتهم المتوقفة وتأمينهم بعد العودة وتركهم يمارسون أعمالهم بحرية.
8. تأمين الطرقات وفتح المنافذ الحدودية وتشجيع الاستثمار ودعم القطاع الزراعي لما لجميع ذلك من أثر في إنعاش الحياة الاقتصادية والحد من البطالة والقضاء على حالة الفراغ السلبي.
9. بطلان جميع التشريعات والأحكام والإجراءات التي فرضت على الناس خارج الدستور والقانون واعتبار آثارها منعدمة والكف فوراٍ عن إلزام الناس بالعمل بها سواء كانت ذات بعد ديني أو ثقافي أو اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي.
10.         استعادة حق المحافظة والمناطق المتضررة فيما يرصد لها من ميزانية الدولة ورصد ميزانيات إضافية لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وصحية وزراعية بما يكفل لها اللحاق بالمحافظات الأخرى في مستوى البنية التحتية.
11.         تفعيل دور صندوق إعمار صعدة ومساندته وتيسير عمله لاستكمال إعادة إعمار ما دمرته الحروب خصوصا وأنه قد قطع شوطاٍ كبيرا في الحصر والتقييم ووضع الخطط للأزمة للعمل.
الصراع السياسي والتعصب المذهبي 
تتنازع السلطة السياسة والنفوذ الاجتماعي في صعدة زعامةَ قبلية وأخرى دينية فبعض مشايخ القبائل والوجهاء ومن يدورن في فلكهم يقدمون أنفسهم على أنهم أصحاب الحق في قيادة المحافظة وتسيير شؤونها كونهم أصحاب الأرض والتاريخ وبوابة الدولة قديماٍ وحديثا في التعامل مع المجتمع ويرون أن كثيراٍ من الزعامات الدينية المسيطرة في المحافظة اليوم لهم مشروع طائفي يرفع شعار الموت وسيحشر البلاد في صراع المحاور الإقليمية والدولية وليس له علاقة بعمارة الأرض ولا يهدف لبناء حياة الإنسان ولا يبحث عن سعادته.
في حين ترى تلك الجماعات أنهم المؤهلون لقيادة المجتمع بل إن الله اصطفاهم لذلك وأنه يتعين ديناٍ على الجميع موالاتهم ونصرتهم أينما كانوا ولن يكون للأمة خلاص إلا بالسير على ركبهم والتمسك بهديهم والفناء تحت راياتهم. 
وفي ظل ذلك غرقت المدارس الدينية والتيارات القبلية في مفردات الخلافات السياسية والدينية وأفرغت جهودها وإبداعها في حشد الأنصار والأتباع والمؤيدين ضد مخالفيها واستنفرت لذلك ما يمكنها لنصرة موروثها ويساعدها على التصدي لما لدى الآخرين بالرد ونقض والتوهين مما أدى إلا تقسيم المجتمع وتمزيق وحدته وتشكيله في صفوف متقابلة يخوض بها معارك وهمية استنزفت طاقته وفككت عرى عصمته وجعلت كل فريق لا يرى في الحياة إلا معنى الصراع والاستعداد للمواجهات بشتى أشكالها وكأن الله ما خلقنا إلا ليقضي بعضنا على بعض .. وجودا وفكرا وأسلوب حياة.
ونرى أن من المعالجات لقطع هذا النوع من النزاع والتخفيف من غلوائه:
1. العمل في ظل دولة مدنية تعتبر المواطنة أساس المشاركة في بنائها وتسيير شأنها من خلال من  يختارهم الشعب بإرادة حرة ونزيهة على أساس أنهم قادرون على الإبحار بسفينة الوطن إلى شاطئ الأمان والارتقاء بها إلى السعادة والعيش الكريم دون تمييز جنس أو قبيلة أو عرق أو جهة أو مذهب أو حزب أو جماعة. فمن يقدم للمجتمع ما يتطلع إليه من تقدم وينهض به على المستوى التعليمي والأمني والصحي والاقتصاديº فهو من يسهم في ذلك زعماء الأمة وقادة المجتمع مهما كان انتماؤهم القبلي والمذهبي والعرقي فخير الناس انفعهم للناس وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
2. إقرار نظام الحكم الذي يرسخ مبدأ الديمقراطية والمشاركة الواسعة والعادلة وترك اختيار رؤساء المحليات والمؤسسات للجمهور المعني بها على مستوى المدن والقرى وتفعيل دور النقابات وتطوير عملها.
3. الاعتراف بحق جميع الأفراد والتيارات والأحزاب في المشاركة في الحياة السياسة والتجمعات الوطنية بمختلف أشكالها وعلى جميع المستويات وضمان مالها حرية مالها من حق في التعبير عن آرائها من خلال وسائل الإعلام المختلفة وبشتى سبل التعبير كالتجمع والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات ونحوها.
4. التنصيص في الدستور على ما يتيح للجميع فرصة مزاولة النشاط الاقتصادي بأرقى مستوياته وتشريع حزمة من القوانين التي تظم وتشجع وتيسر  العمل التجاري لسائر الأفراد على حد سواء.  
5. يحضر على الجماعات والتيارات مهما كانت صفتها التدخل في شؤون الإدارات والمؤسسات الحكومية والتأثير على عملها بالترغيب والترهيب ويكتفي المتضرر والمعترض بالرفع إلى الجهات المعنية لمحاسبتها عند التقصير في مهامها أو الإخلال بواجبها.
6. ضمان حق جميع التيارات والأفراد في ممارسة شعائرهم الدينية وأنشطتهم الفكرية والسياسية والتعبير عنها بمختلف الوسائل بحرية تامة ودون أي منع أو تخويف أو تضييق أو استهداف للوجود مباشرا كان أو غير مباشر.
7. إيقاف حملات التحريض والتعبئة سواء منها ما يصدر عن وسائل الإعلام أو منابر الخطاب الديني والتربوي وغيرها والتزام جميع الأطراف بالخطاب المسؤول الذي يخفف التوترات ويطمئن الجميع سواء كان دينيا أو سياسياٍ أو غيرهما.
8. تكفل الدولة انفتاح التعليم في مختلف مراحله على جميع المذاهب ليشكل مرجعية فكرية وثقافية تحترم التنوع والتعددية وتساعد على التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وتلغي أشكال التمييز العرقي والمذهبي والسياسي.
والله الموفق

• باحث بشؤون الفكر الإسلامي والسياسي

قد يعجبك ايضا