الملح.. يوما◌ٍ ما كان ذهبا

غمدان اليوسفي –
«لم يكن عبثا أن المهاتما غاندي اختار الملح ليكون مدخلا لاستقلال الهند عن بريطانيا وقبله قاد جورج واشنطن معركة استقلال أمريكا عن بريطانيا التي تضمنت نضالا للحصول على الحق في إنتاج الملح والإتجار به».
هذا الفص العجيب ذائع الصيت أصبح اليوم سلعة أرخص من أن يذكر في تقارير الاقتصاد أو تداولات الأسواق العالمية.
قبل أكثر من 22 آلف عام استخدم الصينيون الملح.. هذا ما أظهرته وثائق تتحدث عن ضريبة للملح.. وكانت هذه بداية لتاريخ سيحمل معه الحروب والصراعات عليه وأكدت النصوص إن مقاطعة شيشوان الصينية كانت مركزا لإنتاج الملح قبل خمسة آلاف عام وهو التاريخ ذاته الذي ظهرت فيه مدافن ملح للفراعنة.
أهمية تاريخ الملح جعلت الصحفي الأمريكي مارك كيرلانسكي وهو أحد أبرز الصحفيين المعاصرين هناك يسعى لتأليف كتاب عن هذه المادة أصدره في العام 2003 وعنونه بـ (تاريخ الملح في العالم) ثم ترجم عن السلسلة الكويتية عالم المعرفة.
بذل الإنسان جهودا مريرة للحصول على الملح وتم استخدامه كبديل للتبريد في حفظ اللحوم والأسماك والأجبان.
لعل أول استخدام تاريخي لافت وكثيف للملح هو استعمال الفراعنة له في التحنيط كون معتقداتهم تتركز على الخلود حيث حفظت المومياءات في إطار الاعتقاد بضرورة حفظ الجسد ليبعث مرة أخرى.
أعطت قوة الملح في حفظ الأجسام هالة أسطورية ووصلت تلك الهالة إلى حد الاعتقاد بأن الملح مساوُ للحياة ذاتها.
ظهرت مدن في أوروبا تحمل اسم مدينة الملح كمدينة (سالزبورج) في النمسا و(هالشتات) الألمانية فيما تم تأسيس طرق التجارة العالمة بواسطة قوافل الملح لتصبح بعدها طرقا للتجارة الشاملة.
وتضاربت أشكال إنتاج الملح فبينما استخرجها الصينيون من الأرض بواسطة الحفر استخرجها المصريون بتبخير مياه شواطئ الدلتا كما اشتروا قسما منه بالاتجار مع بلدان المتوسط وقد عرفوا عدة أنواع منه أبرزها ملح سمي بـ(ملح الشمال) و(الملح الأحمر).
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن أول من ابتكر الأحواض وملأها بمياه البحر هم الصينيون في 500 قبل الميلاد ثم ظهرت هذه الآلية في البندقية بإيطاليا بين القرنين السادس والتاسع الميلادي.
اْستغل الملح استغلالا سياسيا في كثير من الأحيان حيث كان الملح في فترة مملكة روما مقتصرا على النبلاء ثم جاءت الجمهورية فأصبح الملح حقا للعامة وعشية حملة الإمبراطور أغسطس ضد مارك أنطوني وكليوباترا أمر بتوزيع زيت الزيتون والملح مجانا لكسب تأييد الناس له.
بالنسبة للرومان اعتبر الملح جزءا من الإمبراطورية ونشروا الورش المنتجة له في أرجاء إمبراطوريتهم في إيطاليا وصقلية وأسبانيا وألمانيا والبرتغال وغنموا ورش اليونان في الشرق الأوسط والبحر الأسود.
سيطرت مدينة البندقية في مرحلة مابين لقرن السادس والعاشر على تجارة الملح عالميا وكانت المدينة كمركز تجاري لهذه المادة وتوقفت عن الإنتاج بعد أن وجدت أن تجارته أرخص من إنتاجه.
وبينما كان وضع تجارة الملح شأنا تجاريا خاصا بالتجار الذين يدفعون ضرائب عليه في البندقية استمر احتكار الدولة للملح في الصين لآلاف السنين ولم يسمح بالمتاجرة به لكن الملح شهد تجارة مزدهرة في العصور الوسطى في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا والسويد وغيرها.
لم يعد الملح كخام سلعة وحيدة في أوروبا والصين لكن مبتكرات الملح كانت تتزايد قرنا بعد آخر وظهرت الأسماك والحيتان المملحة كتجارة رائجة وكذلك اللحوم والأجبان والتوابل غير أن الدول المنتجة للملح كانت هي صاحبة الحظ الأوفر في تلك التجارة.
حروب الملح
يتألف تاريخ الأمريكيتين من الحروب المستمرة على الملح فكل من يسيطر على الملح كان يسيطر على السلطة كان ذلك قبل وصول الأوروبيين واستمر أمرا واقعا حتى الحرب الأهلية الأمريكية.
سيطر الأسبان على السلطة بعد الاستيلاء على ورش الملح واستولى البريطانيون على أمريكا الشمالية وأخذوا منها لحم القد ثم إلى الجنوب وأخذوا الملح لتمليحه وبعد أن كثرت مستوطناتهم أصبحت أمريكا سوقا لملح ليفربول الشهير حينها.
شعرت بريطانيا بحاجتها إلى الملح فكانت تستولي على أي مكان يتوفر فيه بينما كان البرتغال يملكون الملح غير أنهم لايملكون الحماية من الفرنسيين الذين كانوا يستولون على سفن الملح التابعة لهم فاضطروا للتحالف مع البريطانيين لتكون الحماية مقابل الملح.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر تصارعت القوى الأوروبية الكبرى للسيطرة على جزر الكاريبي للاستيلاء على قصب السكر بينما بحثت دول شمال أوروبا (إنجلترا هولندا السويد الدنمارك) عن جزر فيها مستنقعات الملح مثل جزر خليج فيرد.
وحين قرر الهولنديون في القرن الخامس عشر الاستقلال عن أسبانيا في حرب استمرت ثمانين عاما حرمتهم أسبانيا من ملحها.
وحول الحديث عن الضرائب التي كانت تؤخذ عن الملح شهدت فرنسا في القرن السادس عشر صراعا كبيرا بين عمال الضرائب أو (الغابيل) وهم مجموعة من الانتهازيين كانوا يكسبون من بيع الملح بطرق ابتزازية أو غير شرعية حيث صدرت بحلول القرن الثامن عشر أحكام بالموت والسجن على أكثر من 3000 رجل وامرأة وطفل ولم ينته أمر الغابيل إلا بعد سقوط الباستيل وقيام الثورة الفرنسية غير أن نابليون أعاد الضرائب ورخص سعر الملح وتكدس في مناطق من فرنسا حتى أصبح المثل يقول: «النصيحة والملح متوفران لكل من يريدهما».
أما في أمريكا فبعد خروج البريطانيين منها ابتكر الأمريكيون طرقا لجني الملح والاكتفاء الذاتي منه والاستغناء عن بريطانيا وواضبت عدة ولايات على دعم منتجيه من القطاع الخاص.
ثورة الملح
حكمت بريطانيا الهند عبر ما كان يعرف بـ شركة الهند الشرقية وكانت عدد من أقاليم الهند منتجة للملح بوفرة كبيرة ثم فرضت نظاما ضريبيا قاسيا على الملح المستورد من البنغال بينما منعت استخراجه أو بيعه أو لمسه في أغلب أقاليم البلاد منها إقليم أوريسا الغني بالملح وهو الأمر الذي دعا المهاتما غاندي إلى القيام بمقاومة سياسة الملح البريطانية.
اقترح غاندي على حزب المؤتمر الوطني الذي حوله بعد ذلك إلى حركة شعبية إن تتركز حركة الاستقلال حول الملح معتبرا أن الملح خير مثال لسوء الاستعمار البريطاني حيث كان غاندي حينها قد أمضى ستة أشهر دون أن يذوق الملح لغلائه وانعدامه.
وجه غاندي رسالة في مارس 1930 للقيادة البريطانية بأنه سيكسر الحصار على الملح ثم سجن لعشرة أيام مع 78 من أعوانه وبعدها أطلق سراحهم ليبدأ مسيرة الملح صوب البحر لكسر الحصار على الملح وجلبه حيث بلغ طول الطريق الذي قطعه 520 كيلو مترا قطعه مع الآلاف من أنصاره مدة 25 يوما على الأقدام ورفض ركوب الخصان الذي هيئ له.
سخرت منه الصحافة المحلية وقالت إنه سيسير وحده وأعجبت به الصحافة العالمية ووصلت التقارير للقيادة البريطانية أنه سيموت في الطريق كونه مريضا وقد بلغ الستين من العمر لكنه وصل إلى البحر عند داندي واغترف الملح كاسرا الحصار ليكسر معه شعب أوريسا الحصار وينتج الملح.
حاولت الشرطة إجبار الهنود على ترك ذلك واعتقل الآلاف وجرح مثلهم دون مقاومة لكن الحركة اتسعت لتشمل الهند كلها وحين قرر غاندي الاستيلاء على ورش الملح التابعة للحكومة البريطانية اعتقل وأودع السجن وتفجرت الهند غضبا بينما سجن 100 ألف من المحتجين.
في عام 1931 وقعت بريطانيا معاهدة ما أسمي بـ معاهدة غاندي-إيرون التي سمحت للهنود باستخراج الملح وأطلق سراح السجناء وصار المؤتمر الوطني ممثل الهند للاستقلال ونالت استقلالها في 1947م واغتيل غاندي بعد الاستقلال بخمسة أشهر بسبب تعامله مع معتنقي جميع الديانات على حد سواء بما فيها المسلمون.