كمال البرتاني
تغيرت كثير من عادات الناس في هذه البلاد المنكوبة منذ عام 2011، ويبدو أن مزاج الطبيعة، هو الآخر قد تبدل. وبينما كنا على وشك التصديق أن اليمن خلال السنوات والعقود القادمة ستصير جزءا من صحراء جزيرة العرب القاحلة، إذا بالرعود تزمجر معترضة، والمطر يقهقه مكذبا تلك التوقعات!
هذا الشهر، ملأت الأمطار الفجوة التي تركتها هدنة المتحاربين: حصدت الكثير من الأرواح، جرفت قطعان الماشية، اقتلعت الأشجار، وأغرقت السيارات التي لا تجيد السباحة. بيوت القش لم تستطع الهرب من مواجهة السيول العارمة، والبيوت الطينية سالت واجهاتها وسقطت سقوفها. رأيت أحدها كما لو أنه تعرض لغارة سعودية، حولت عيدان القصب في سقفه إلى نايات تعزف عليها الريح لحنا حزينا صرنا نحفظه عن ظهر قلب.
عوضاً عن انفجارات الصواريخ، كانت الرعود في بعض المناطق مواعظ بليغة تحثنا على المزيد من الصبر، وتنذر بكوارث لا دخل لنا في صنعها، لكنها في مناطق أخرى بشارات أكيدة بأن مواسم الخير قد أقبلت بتعويض مناسب عن سنوات الجفاف والحرمان.
في (مناخة)، حيث عانى الناس كثيراً من شحه المياه، أغلقوا أحد المساجد وأدوا الصلاة – جمعتين متتاليتين- في قاع سدّ صغير يسمونه “بركة العليا”. كانوا قد غرفوا ماءها حتى آخر قطرة، ونظفوها من الرواسب الطينية، ثم كنسوها حتى آخر ذرة غبار، في انتظار وعدٍ ربيعيٍّ يأتي دائما، لكنه كان شحيحا في المواسم السابقة.
وخلال 3 ساعات من المطر، يوم السبت التاسع من نيسان، امتلأت البركة وفاضت، كما لم يحدث من قبل، حسب تأكيدات كبار السن.
ما إن انقطعت خيوط المطر، حتى سارع الناس لتفقد «أجبيه» منازلهم، وتصريف المياه منها، إلى الشوارع المرصوفة بالحجارة، حيث لا يمكن للغيث أن يترك أثرا حيا، لأوردة تضحك ولا عشبه تتنهد!!
هطل المطر مع وابل بَرَد كسا الأزقة والساحات والقلوب بالبياض، وحين سكتت الرعود، وتفرقت الغيوم، لم يجد بعض «الرعية» مزارعهم حيث عهدوها، وصار عليهم أن ينزلوا إلى (وادي موسنة) ليتعرف كل منهم على “جربته”!
تفجرت العيون في كل مكان، حتى أن إحداها كانت داخل منزل، في خاصرة جبل (كاهل بن سعدان)، كأنها قبلة طائشة!
وبينما الناس يحتفلون بالمطر، ويلتقطون معه الصور، كان أحد التجار يتنقل داخل بيته سباحة، ويضطر للغطس؛ بحثا عن حقيبة مليئة بالنقود وأشياء أخرى ثمينة، أما امرأته فأجهشت باكية لاهجة بالحمد والشكر، وشعرت أن دموعها هي التي تسيل على زجاج النافذة.
أحد الأهالي، وهو معروف بنومه الثقيل، استيقظ بعد توقف المطر، وحين خرج للمقيل، شعر أنه لايزال نائما وأنه يتجول في دروب الأحلام. وجد البركة قد امتلأت، وكان قد رآها قبل سويعات فارغة إلا من أكياس النايلون التي تتقافز في قاعها كطيور عمياء!
فرك عينيه وهو يشاهد أطفالا يمشون على طبقة الثلج المتماسكة في سطح البركة بأقدام حافية.
كانت الشمس قد سطعت بعد انقشاع الغيوم، والعصافير التي لاندري كيف تدبرت أمرها أثناء المطر، تتسافد في بحيرات الماء المتلألئة كالمرايا، بينما لاتزال السيول تتدفق من الجبال، وتكر كخيول جامحة. .
سيول في جو مشمس، ذلك ما لم يصدقه الرجل، ضمن مشاهد عديدة أقرب إلى الخيال!!
بفضل (مارك) تمكنا من رؤية اللمسات السحرية التي تركها المطر في مناخة. مئات الصور ومقاطع الفيديو نشرت على الفيس بوك، وثقت كل شيء تقريبا، وجعلت المطر يواصل الهطول لساعات أخرى في العالم الافتراضي، حتى أنني سمعت الأرض تتجشأ، وأحسست بالبرد فسارعت لارتداء الثياب الشتوية.
في اليوم التالي، كانت طبقة الثلج في البركة قد تكسرت وتحولت إلى قوارب بيضاء، والشوارع لاتزال كأنها مفروشة بزهر اللوز. ومن الصور التي لا يمكن نسيانها، طفل يخلع حذاءه ويمشي على حبات البرد بحذر؛ خوفا من أن تتكسر كالبيض فيسيل زلالها في الطرقات!!
ما أجمل أن يغسل الغيث قلوبنا من الأحقاد، وما أجمل أن ننسى أخبار الاحتراب، ورائحة الدم، ونتداول حكايات لها لون ورائحة المطر!!