تتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات، فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل، ومنهم من تستفزّه الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه، فالرجل العظيم حقاً كلما حلّق في آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم، فإذا عدا عليه غرُّ يريد تجريحه، نظر إليه من قمته كما نظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون في الطريق وقد يرمونه بالأحجار.
والجاهلية التي عالج المجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تقوم على ضربين من الجهالة؛ جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنع الفساد، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد.
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فجاء الإسلام يعالج هذا الخطأ ويقيم أركان المجتمع على الفضل فإن تعذر فالعدل، ولن تتحقق الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غريزة الغضب، وكلما رسخ الإيمان في القلب ربت معه السماحة وازداد الحلم، ونفر المرء من طلب الهلاك والغضب للمخطئين في حقه.
وقد حرم الإسلام المهاترات السفيهة وتبادل السباب بين المتخاصمين، وكم من معارك تبتذل فيها الأعراض وتعدو فيها الشتائم المحرمة على الحرمات العزيزة، وليس لهذه الآثام الغليظة من علة إلا تسلط الغضب وضياع الأدب.
وملاك النجاة من هذه المنازعات الحادة تغليب الحلم على الغضب، وتغليب العفو على العقاب ولا شك أن الإنسان يحزنه أي تهجم على شخصه أو على من يحب، وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها، ولا يقرّ له قرار إلا إذا أدخل من الضيق على غريمه بقدر ما شعر به هو نفسه من ألم.
فعن عبادة بن الصامت قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ألا أُنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك” صدق رسول الله.
Prev Post