هناك سلسلة طويلة من الكتب التي شهدتها السنوات الأخيرة، حول موضوع مسيرة الاتحاد الأوروبي ومستقبل الاتحاد الأوروبي الذي يمثّل بدوله الأعضاء السبعة والعشرين التجسيد الواقعي لتلك المسيرة. والكثير من هذه الكتب تطرح أسئلة حول مستقبل القارّة العجوز وعمّا ستكون عليه الخطوات المقبلة. وهل هي باتجاه تعزيز مسار التوحيد أو بالأحرى التقهقر نحو الوراء والانتهاء إلى انفصال عراه في الأفق القريب المقبل؟.
في مثل هذا السياق صدر في منتصف شهر مارس من هذه السنة كتاب اتيين باليبار، الفيلسوف الفرنسي الشهير والأستاذ في جامعة غرب باريس ــ نانتير ــ والذي يشغل كرسي أستاذ الفلسفة الأوروبية الحديثة في جامعة «كنغستون» في لندن، حول مستقبل أوروبا الموحّدة. يحمل الكتاب عنوان «أوروبا: الأزمة والنهاية؟»، بصيغة الاستفهام.
ينطلق اتيين باليبار في تحليلاته من تأكيد أن الأزمة المالية التي انفجرت في اليونان قبل سنوات ودفعت البلاد نحو حافة الإفلاس وأفق الانسحاب من منطقة اليورو ومن الاتحاد الأوروبي «لم تكن مجرّد أزمة اقتصادية»..
وكذلك «لم تكن تعبيراً صرفاً عن أزمة عابرة». ذلك أن أوروبا وجدت نفسها مع بروز العجز المالي اليوناني الكبير مرغمة على التفكير، بعجل، بصياغة «إستراتيجية دفاع عن العملة الأوروبية الموحّدة ــ اليورو».
وبمناسبة البحث عن مثل تلك الإستراتيجية برزت للعيان معالم الأزمة الحقيقية المتمثّلة في درجة «التباين الكبير»، بل و«الخلاف»، بين البلدان الأوروبية فيما يتعلّق بسبل مواجهة «التوزيع العالمي الجديد لرؤوس الأموال وللسلطات». ويشرح المؤلف أن مثل هذا التباين جعل من الصعب «الرهان على مستقبل البناء الأوروبي» في منظور إعطاء «صوت سياسي موحّد» للقارة.
وفي المحور ــ القسم الأول من الكتاب ــ يقدّم المؤلف توصيفه للأزمة الراهنة التي تتسم بالتداخل الكبير بين الاقتصاد والسياسة. ذلك أن الاقتصاد، كما يراه، ليس مجرّد مسألة تقنية، كما يكرر البعض القول.
ثم يشرح المؤلف في المحور ــ القسم الثاني التصوّرات المقدّمة للخروج من الأزمة في أوروبا. ذلك من خلال أحد تصورين. يؤكّد أنصار أولهما بضرورة اللجوء إلى عمليات الضبط المالي بينما يؤكّد الآخرون على الحماية.
وتحديد القول ان التمايز الكبير بين السبيلين يكمن في أن الأول يعنى بـالمجال الأوروبي الشامل بينما تتركز الحماية على المجالات المحليّة ــ الوطنية.
المحورــ القسم الثالث من الكتاب يتركّز بشكل خاص على المسائل المتعلّقة بالحدود في أوروبا وعلى محيطها وبسياسات الهجرة وبمفاهيم المواطنة. وهنا يطالب المؤلف بضرورة تجاوز النقاشات والجدل حول النموذج الأوروبي للتوحيد وهل هو «أوروبا الفيدرالية» أم «أوروبا الأمم».
بالمقابل يؤكّد أهمية «التفاعل الثقافي» بين الأوروبيين عبر «التربية والقيام بحملات سياسية ذات طابع أوروبي عام يتجاوز الحدود الوطنية لكل بلد…
وما يوفّر تدريجيا للشعوب الأوروبية السبل الملموسة للمقارنة بين تاريخ كل منها والعمل عبر ذلك إلى التوفيق بين مصالحها المشتركة». وترجمة هذا كلّه تفضي، برأي مؤلف الكتاب، إلى التأسيس لـ «مواطنة أوروبية» حقيقية تتجاوز الخطابات المكرّسة في أغلب الأحيان لـ «الاستهلاك السياسي».
في المحور ــ القسم الرابع يبحث المؤلف في سبل تحقيق «بناء أوروبي مختلف» عمّا هو قائم اليوم. ذلك بهدف الوصول إلى تشارك حقيقي للمواطنين الأوروبيين في تعزيز أسس البناء الأوروبي عبر «تعزيز ما هو مشترك» بين الجميع، والتأكيد على البعد الاجتماعي لهذا البناء الأوروبي. والتأكيد أيضاً في هذا السياق على أهميّة «البعد الإنساني»، و«ليس الأمني»، في التعامل مع موجات المهاجرين الحالية… والمقبلة.
ويحدد المؤلف القول ان حالة التخبّط التي عرفتها أوروبا بمواجهة الأعداد الكبيرة من المهاجرين الذين دفعتهم نحوها النزاعات والحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط. ولا يتردد في التأكيد أن «أوروبا فهمت أزمة اللاجئين بصورة سيئة». والإشارة إلى أنه لا تزال هناك بقايا في الذاكرة الأوروبية من «المخيلة الاستعمارية».. ويؤكّد «اتيين باليبار» إجمالاً أن أزمة اللاجئين وضعت أوروبا، كما يشرح، أمام خيار صعب.
ذلك أنه بدا على الأمم الأوروبية إمّا أن تؤكّد واقع توحيد صوتها في مواجهة المشاكل المستجدة أو أن تتجه نحو تأكيد الهويات القومية لكل بلد والتأكيد على مسائل السيادة الوطنية.
وبالتالي الانجراف وراء «نزعات رفض الآخر وجعله موضوعا لبغضها» و«الخضوع الكامل لمستلزمات اقتصاد السوق» و«الإغراق في السياسات ذات الطابع الأمني والبوليسي» بحيث أن «إغلاق الحدود غدا بمثابة المشروع الأوروبي المشترك الوحيد اليوم». أي باختصار الانجرار بعيداً عمّا يمكن أن يعطي لأوروبا الموحّدة «بعدها الاجتماعي».
تأملات وأحكام منطقية
يقدّم الفيلسوف اتيين باليبار ما يعتبره «تأملات مواطن أوروبي»، كما يعرّف نفسه في المقدّمة، في هذه المرحلة الحاسمة من تطوّر المسار الأوروبي وما سوف يحدد مستقبل الاتحاد الأوروبي. ويشدد المؤلف على أن «التناقضات» في بنى الديمقراطية والمجتمع المدني تبرز أكثر بمرور الزمن. ويشير إلى «تراجع الديمقراطية» في البناء الأوروبي وفي التعامل بين البلدان الأوروبية.
المؤلف في سطور
اتيين باليبار فيلسوف فرنسي، أستاذ في جامعة نانتير غرب باريس، ويعمل أستاذاً للفلسفة الأوروبية الحديثة في جامعة «كنغستون» في لندن. درّس في العديد من الجامعات الأميركية والأوروبية. مؤلف عشرات الكتب، بينها: «العنف والأمّة والطبقة» و«العنف والتمدّن» و«أوروبا وأميركا والحرب».
Prev Post