كتابة القصة بتقنيات روائية
الغربي عمران
حرصت حضور ندوة نُظمت ضمن برنامج معرض القاهرة للكتاب للمجموعة القصصية “ذلك المكان الآخر” للأديب أسامة الريان الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب 2015 “سلسلة كتابات جديدة” كوني قرأت للكاتب في فترات سابقة عدة نصوص.. لفت انتباهي أسلوبه الذي ينطبق عليه السهل الممتنع.. الذي لا يختلف عن أسلوب في الكتابة حياته. وقد التقيت بالكاتب في أكثر من مناسبة .. ووجدت أن ما يطرحه في كتاباته لا ينفصل عن حياته ونظرته للوجود. فالريان لا يتصنع في أي شيء.. دوما يتعامل ويتحدث ويكتب بقلب صادق ومحب. وذلك ما جعلني أشتاق إلى جديده.
استمعت إلى النقاد حول نصوص المجموعة.. ومداخلات بعض الحضور.. زادني ذلك شوقاً إلى قراءتها. لأكتشف سر تميز نصوصها.. فكثيرا ما كتبنا نصوصنا بضمير المتكلم وكثيراً ما قرأنا نصوصاً بضمير المتكلم.. لكن الريان وضميره جعلني أشعر بأنه من يحكي لي وليس الراوي من يتحدث.. الراوي الذي كان أحد الشخصيات المحورية في كل نصوص المجموعة غاب لدي.
في البدء حدثت نفسي هل سامي يكتب متواليت قصصية هي من صلب واقع حياته حتى أوصل كل ذلك الإحساس.. وفي قراءتي الثاني للمجموعة بعد سفري من القاهرة.. اكتشفت خيبة ظني.. فنصوص المجموعة طافحة بالخيال.. وذلك الخيال ما أعطاها تلك المرونة والحساسية.. ثم أن الراوي لم يكن بسن معينة في جميع النصوص.. ولا بمهنة واحدة.. فتارة معلم.. وأخرى طالب.. وثالثة حرفي.. ورابعة عاطل. لكنه الصوت الذي ظل قريبا من الوجدان صوت سامي .. وملامحه وهو يتحدث كعادته مبتسما.. هو من كان يجعلني متيقنا بأنه يحكي عن معانات عاشها.. لشخصيات يعرفها .. كتب عن عذاباتها ومعاناتها وآمالها بصدق في ما جعل إحساسه يصل إلى المتلقي ..وقد قدم ذلك الراوي بمستويات مختلفة من التعليم.. فتارة جامعي .. وأخرى مثقف.. وبعضها مجرد فرد لم يأخذ حظه من التعليم. أجواء من البيئة المصرية.. يكاد القارئ يرى ويسمع إيقاع الشارع.. ذلك العراك اليومي من أجل لقمة العيش.. تلك المشاجرات والصريخ الذي لا ينقطع. الكاتب نقل بأشكال مختلفة نبض المجتمع الذي يعاني من التسلط والفساد.. ومن الفهم الخاطئ للدين.. وما تقوم به الجماعات المتأسلمة من تسميم للوعي وتشويه للقيم الإنسانية. وتلك النصوص التي تعالج نسيج المجتمع من خلال الأسرة وتلك العلاقات بين أفرادها.. والجيران .. وزملاء العمل.. وطلبة المدارس.. والأرزقية على باب الله.. وأصحاب المهن.. مسلطا الضوء على شخصيات تمتلك الفن الفطري في الموسيقى والخط والنحت والرسم.
كما أن هناك أمراً ملفتا.. فجميع نصوص المجموعة تعالج تلك العلاقة بين الفرد والمجموع .. الفرد والآخر.. فهناك شخصية في كل نص تأتي مختلفة عما حولها.. ليدور بينها وبين البقية صراعاً.. ذلك الصراع لا يؤدي إلى تنامي الشخصيات .. مستعيضا عنها بتنامي الأحداث.. على شكل صراع مستعر بين الفرد ومن حوله: جيران.. زملاء عمل.. أفراد الأسرة… الخ.. ودوما يفضي ذلك الصاع إلى انتصار المجموع على الفرد. ومن ذلك في نصوص”قرني” وفي “دبابة نهى” وفي “جاري الأمريكاني” وفي “ابن جاكلين” وفي “جميل” وفي “تانجو” وفي “الأستاذة سعاد” بل وفي جميع النصوص.. حين تشذ الشخصية ..أو بمعنى تختلف في سلوكها وطريقة حياتها .. أو في محاولة فرض قناعاتها أو حماية مصالحها.. أو بسط مفاهيمها على المحيط بها.. يدور الصراع لينتصر في النهاية الكل على الفرد. وذلك الفرد تارة يمثل الجمود..وأخرى يرمز إلى مواطن التسلط والفساد.. وثالثة يعود من حيوات ماضية كالأب المتوفي ليجالس ابنه وكأنه لم يمت. ودوما ما ينتصر النص لقيم التغيير.. وأمل الحرية والانعتاق من سيطرة دعاة الجمود.. أو بالأصح أعداء الحياة من يعملون جاهدين لنشر ثقافة الموت والقبح في أوساط المجتمع.
ومن خلال تلك الشخصيات.. يصطحبنا الكاتب لنعيش ثقافة ذلك الوسط وأسلوبه في الحياة.. وتلك العلاقات بين أفراد الأسرة ومحيطها من جيران وأقارب وأبنا كار واحد. وبذلك يقدم لنا الكاتب النص المحمل بالفكر .. فكر تلك الشرائح ورموزها وثقافتهم مهنيا واجتماعيا .. بمعنى أن الكاتب ينشغل بالموضوع قبل كتابته .. ويظل يعمل فيه الخيال قبل أن يبدأ صياغته .. ولذلك سيلحظ القارئ أن الكاتب أشبع تلك الأفكار التي تعالجها نصوصه من جميع الجوانب.. ولن يجد نصا واحدا كتب من التسلية والحكي المنمق.. أو من أجل التجريب دون وعي. من هنا تصنف هذه النصوص بالسرد الفكري.. والثراء الثقافي. قلة من يكتبون السرد رواية وقصة بتلك الدراية التي تترك أثراً في روح المتلقي. ولا يمكن أن يكتبها إلا ذوو الثقافة الواسعة.
جانب آخر نجد فيه الكاتب يمتلك زمام لغته.. مازجا بين الفصحى والدارجة.. دون تعارض.. أو تنافر.. فتلك الحوارات تقربنا من بيئة المجتمع ومن مستوى تلك الشخصيات التعليمية والمهنية. وتجعل المتلقي يشعر بأنه أحد شخصيات تلك الأوساط .. يتعاطف مع تلك الشخصيات . وذلك لا يتأتى لأي كاتب إلا إذا تحلى بصدق فني وإخلاصه لموهبة الكتابة.
زاوية أخرى نرى المتلقي منها بأن الكاتب يعتمد النفس الطويل في معالجة قضايا النص..فنراه يشبعه مستخدما تقنية الرواية.. حيث تتنوع من نص إلى آخر. وقد أطل الأب المثقف بشكل ملتبس في أكثر من نص.. وهو الغائب الحاضر بكتبه وحكمته وبثقافته الواسعة.. وتلك التشظيات .. كما تأتي الأم كأكثر كائن معطاء.. محبا لأفراد الأسرة خاصة الصغار منهم وقد حولت منزلها إلى واحة محبة لزياراتهم .. تغني وهي تعد الأطعمة بمرح روح الشابة .. تشارك الصغار فيما يفكرون وتحن على الجميع بعطف آلهة الخصب والعطاء. تلك الصور والمشاهد التي ينسجها الكاتب ببراعة وإتقان العاشق لفنه تعطي المتلقي متعة مضاعفة وهو يشاركه تلك الأحاسيس الأسرية.
الكاتب ينسج حكاياته بأسلوب ايحائية أو أنه يدفع بالقارئ إلى استخلاص ما يرمي إليه دون أن يعلن أو يلجأ للسرد المباشر.. على اعتبار أن القارئ كائن واعي..وشريك للكاتب.. باحثا عما بين الأسطر.. ليصل إلى معاني ما يهدف إليه النص.. وما ترمز إليه بعض أحداثه وشخوصه. الكاتب ينسج حكاياته على مهل ناقلا إلى القارئ ذلك الشعور بأريحية السرد .. وكأن الحياة تسير رغم إيقاعها السريع .. دون أن يشعر من داخل تلك النصوص.. ذلك الأسلوب الروائي جعل كل نص يمثل فصل من رواية .. مزدحما بتلك التفاصيل الصغيرة.. ونعرف بأن كمون الفن في التفاصيل متناهية الصغر.. وذلك ما يدركه الكاتب لتك النصوص. بل أنه يصطحبنا إلى تيمات متشظية عن محور الحكاية المحورية لكل نص.. ليشعل خيال القارئ محاولا الربط بين تعدد الشخصيات وتداخل الأحداث.
وكما يؤثث الكاتب نصوصه بأجيج الحياة وصخبها.. نجده يطرز بين نص وآخر بالموت. وتلك الشخصيات التي تأتي من رحلتها الأبدية .. في مشاهد مبهمة.. وكأنها روابط روحية بين الأحياء ومن رحلوا ..ففي نص”يوم آخر” وفي “الأراجوز” وفي “نهاية” وفي “قرني” وفي “ذلك المكان الآخر” وغيرها من النصوص.. نعيش الفقد بكل تفاصيله. والكاتب لا يأتي بالموت في نصوصه كحدث عارض.. بل كمحاور أساسية تدور حوله أحداث القصة .. وتعكس بذلك ثقافة الوسط وتلك الروابط التي يعيشون أو كانت تربط بينهم.
ملمح آخر لنصوص المجموعة.. يتلخص في حضور الأحفاد في أكثر من نص.. وكذلك بيئة الصغار التعليمية من مدارس وجامعات.. وحين نتمعن في مضامين تلك النصوص نجد أن الكاتب يتقل إلينا الشعور بنبض الحياة.. وتحفز حواسنا لاستقبال عبير الأمل ومبهجه.. فأولئك الصغار هم الغد بكل أمل الحياة في سلام وعدل ومساواة.. هكذا يشعر المتلقي وهو يعايش تلك الأجواء التي يرسمها ويلونها الكاتب نازفا مداد قلبه ليقول لنا أن الحياة ليست صراعاً وفساداً فقط.. بل هي أمل بغد أكثر عدالة ومساواة وحرية.
الكاتب في كثير من نصوصه لا يمارئ الأفكار الظلامية.. ورجال الكهنوت.. بل إنه يدفع بمجتمعات نصوصه للتفاعل مع حياة الحرية والمساواة.. ويقدم لنا شخصياته أكثر وعيا بالتسامح والمحبة.. شخصيات تنويرية.. بداية برب الأسرة .. مرورا بالأم .. والأبناء إناثاً وذكوراً أكثر وعيا وتحررا.
هي نصوص أقرب إلى منشورات الثورة.. تحفز العقل والعاطفة إلى حياة أكثر شفافية.. لا دين يسيطر أو يفرق.. ولا انتصار لعرق أو شريحة.. بل نصوص تمثل ذلك المجتمع الذي يعمل من أجل قدسية الحياة.. مجتمع في صراع ليتجاوز كبواته.. ومحو تلك الأفكار والدعوات والنزعات التكفيري من وكلاء السماء.. من ينصبون أنفسهم عن جهالة أو من أجل السيطرة والاستغلال.. أو حماية مصالحهم.
مجموعة تمنيت لو ترجمت لأكثر من لغة.. أو على الأقل توزع بشكل واسع خارج مصر. لا أنطلق من معرفتي بالكاتب .. فقط من إعجابي بأسلوبه وأفكاره.. والأكثر ذلك التواضع الجميل وروعة صدقه في إقباله على الحياة.
هذه المجموعة تستحق أن يقف عندها النقاد والكتابة عنها بشكل موسع.. وما كتبته ليس إلا مقاربة وتحية لعمل سردي متميز.
Prev Post
Next Post