تذكير/ زيد الفقيه
وقد تحدث الكتاب الذي بين ايدينا عن الأطباء العرب منهم : الكندي ، والكناني، ومحب الدين مسكويه، وثابت بن قرَّة ، وحنين بن أسحق، وابن سينا، ويشيد الكتاب بموقف (أبوقراط) الذي جعل من الطب صناعة إنسانية ليس هدفها الربح المادي الذي اساسه الدجل وأسلوبها المخادعة الكاذبة ولادعاء الباطل ، وأقام في وجه من جعلوا هذه المهنة الإنسانية مصدراً للابتزاز ، والتكسب ، ليصبح بعد ذلك ناموساً اتبعه أطباء كل الشعوب في كل الأزمان ، عدا الأطباء العرب في الوقت الحالي ، فقد تحولت هذه المهنة إلى سلعة تجارية فقد الطبيب عندها إنسانيته وحوَّل نفسه إلى آلة لتحصيل المال ، ويمكن أن يموت المريض إذا لم يدفع أجرة انقاذ حياته .
في المغرب العربي كتب أبو القاسم الزهراوي المتوفى عام 1013م نجم الجراحة العربية الساطع في قصر الحكم الثاني في قرطبة كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف ” دوَّن فيه كل تجاربه الخاصة ، ومثَّل القسم الثالث منه دوراً مهماً في الجراحة في أوروبة بعد أن نقله إلى اللاتينية (جرارد الكريموني) وصدرت منه طبعات كثيرة.14
في الكتاب الخامس المعنون “سلاح المعرفة ” استخلص المترجمان أربع عبارات مهمة من داخل الكتاب تقول: ” أطلب العلم من المهد إلى اللحد ، جبر الطالب أقدس من دم الشهيد ، أطلبوا العلم ولو في الصين ، تعلموا السحر ولا تعملوا به” .
هذه العبارات كلها تحث على التعلِّم والصبر على جريرته ، وتحمل مشاقه ، فبالعلم نستطيع التقدم ، لا باللجوء إلى الخرافات والاتكال على الله ، لأن الله عز وجل لا يعمل شيئاً لمن لم يسعَ في سبيل المعرفة ، فقد حث على القراءة والتعلم في عشرات الآيات في القرآن الكريم .
تعرض الكاتبة في هذا الفصل جملة من الابتكارات التي كان العرب والمسلمون قد وضعوا أسسها ، تذكر الكاتبة أن مكتبة الخليفة في القاهرة ضمت مليونين ومأتي كتاباً ، وقد رتبها مئات العمال، وهذا الرقم يعادل عشين ضعفاً لما حوته مكتبة الاسكندرية ، وكانت الوحيدة في عصرها ، وأشارت إلى أنه ليس ثمة أحدٌ في رومه له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة . وقد قال (جربرت فون أوريك)الذي ارتقى كرسي البابوية في رومه عام 999م باسم البابا سلفتروس الثاني : “أنىَّ لنا أن نعلِّم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا . إن فاقد الشيء لا يعطيه”15. وعلى هذه العبارة نقف لنقولها اليوم لأنفسنا نحن العرب ، هل لنا أن نعترف بهزائمنا المعرفية والعسكرية ؟ إذا وصلنا إلى هذا الحد من الاعتراف بخطئنا ـ فأعتقد ـ أننا قد بدأنا نقف على أول الطريق الصحيح ،الذي يدفعنا إلى الأخذ بالعلم ومبادئ التطور ، ومراجعة أخطائنا والاستفادة من الخطأ لعمل الصواب ، أما إذا ظلينا ظاهرة صوتية فلن نتقدم .
عند الوقوف على هذا الكتاب يجد القارئ أن ثمة إنصافاً علمياً للحضارة العربية إبَّان ازدهارها من قبل بعض كتاب الغرب ممثلاً (زيغريد هونكه) ، فهي تتحدث عن الانجازات العلمية للعرب والمسلمين ، فتشير إلى أن عام 999م جاء مبشراً بنشر مبادئ الجراحة على يد (أبي القاسم الزهراوي) ، ودوران الأرض حول الشمس على يد (البيروني) وقوانين الرؤية وتجارب المرايا والعدسات المستديرة والاسطوانية والمخروطية على يد (الحسن بن الهيثم) ، في ذات الوقت وقف الغرب مذهولاً ، وقد تولاه الفزع بترقب ، ويحض القيصر الشاب (أتو الثالث ) ابن العشرين ربيعاً الناس فيقول :” والآن سيأتي المسيح ويحضر الناس ليقتص من هذا العالم”16.
أليست هذه الخرافات والخزعبلات هي ما نرددها نحن اليوم في ظل خيباتنا ، وفي تحريضنا على قتل بعضنا وقتل الآخر للتقرب ألى الله ، ووعدنا لفتياننا المراهقين أن بنات الحور في انتظارهم في الجنة ؟ أليس هذا هو طبع التخلف أياً كان زمانه ومكانه ؟ كيف كنا عندما كان العلم هو هدفنا والمعرفة غايتنا والتسامح وسيلتنا وغايتنا ؟ تقول الكاتبة ” ولعل من أهم عوامل انتصار العرب هو ما فوجئت به الشعوب من سماحتهم ، حتى أن الملك الفارسي (كيروس) نفسه قال : ” إن هؤلاء المنتصرين لا يأتون كمخربين “17 ، بينما ما يدعيه بعضهم من اتهامهم بالتعصب والوحشية ما هو إلا مجرد اسطورة من نسج الخيال تكذبها ألاف من الأدلة القاطعة من تسامحهم وإنسانيتهم في معاملاتهم مع الشعوب المغلوبة ، فالعربي إنسان طيب الخلق كريم السجايا . ويدخل الضيف أو الغريب اللاجئ حمى القبيلة يتناسى الجميع كل شيء إلا أنه ضيف يجب إكرامه وتوفير أسباب الراحة له وحمايته ممن قد يطلب دمه ، حتى ولو كان هذا اللاجئ أشد أعداء القبيلة ، وما كان يعامل به الضيف من انسانية رفيعة أصبح شعار جماعة المؤمنين بعد الإسلام في معاملاتهم للناس في كافة البقاع على السواء18 ، وقد اجتمعت كتب المسلمين والمسيحيين واليهود على رفوف مكتبات العرب متجاورة ومتحابة تخدم الجميع على اختلاف معارفهم وعقائدهم من أجل بناء نهضة علمية تفيد البشرية ، وعلى نفس التسامح العربي لم يخجل العرب أن يدخلوا مدارس غير المسلمين ، وأن ينهلوا من منابع المعارف الهندية والإغريقية ، وهم في عملهم هذا لا يخالفون تعاليم الرسول أبداً ، بل لقد حث الرسول على التعلِّم حتى وإن في الصين ، من المهد إلى اللحد ، وقال: إن ثواب التعلم كثواب الصيام.
وعلى نقيض هذا كانت الكنائس تحرم البحث العلمي وتحث على عدم تعاطيه والانصراف إلى تعلِّم العلوم الدينية ، فقد قال (بوليس الرسول) متسائلاً “ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة؟”ولم يختلف عنه اسقف قيصرية أوزيبوس عام 300م حيث علل ذلك المسلك العلمي لعلماء الطبيعة من الاسكندرية بالقول : ” إن موقفنا من هذه العلوم ليس جهلاً بالأشياء التي تعطونها أنتم كل هذه القيمة ، وإنما لاحتقارنا لهذه الأعمال التي لا فائدة منها ونشغل أنفسنا بالتفكير فيما هو أجدى وأنفع “19 ، ولم يختلف الموقف الكنسي في القرن الثالث عشر الميلادي عنه في القرن الرابع ، فقد تحدث القديس (توما الاكويني) في القرن 13م بالقول : ” إن المعرفة القليلة لأمور سامية أجل قدراً من معرفة كبيرة موضوعها أمور حقيرة “20، وهو هنا يقصد بالأمور السامية المعرفة الدينية والحقيرة هي العلوم الطبيعية ، وفي عام 1206م نبه مجمع رؤساء الكنائس رجال الدين بشدة إلى عدم قراءة كتب العلوم الطبيعية وأعتبر ذلك خطيئة لا تغتفر. نعتقد أن هذه المواقف من العلم والمعرفة والدين نعيشها نحن العرب اليوم ، إذ يصوِّر لنا رجال الدين في الإسلام أن لا تعلم يجدي سوى تعلم العلوم الدينية ، خاصة في الأوساط والأسر التي لم تتكئ على موروث معرفي ، وهي نفس الأدوار التي لعبها رجال الكنيسة في عصور الظلام الأوروبي في القرون الوسطى ، بل لم يكتفِ رجال الدين في عصرنا بذلك التجهيل لكنهم تجاوزوه إلى نبذ الجمال والغناء والحياة المدنية ، وتصوير القتل أنه جهاد في سبيل لله ويدخل صاحبه الجنة ، غير مدركين إن ما يسمونه جهاداً هو تحريض على القتل من أجل الحصول على مكاسب سياسية دنيوية ، أو تنفيذاً لأجندة استخباراتية تريد تهديم الدين من داخله كما ذكرت كتب رجال المخابرات الغربية .
الكتاب يتحدث في فصليه ـ ويسميها كتباً ـ السادس والسابع عن وحدة الشرق وتوحيد الشعوب المتنازعة التي بُنيت على أساس عربي ، ثم عن عرب الأندلس ، والحياة الفارهة المترعة بالحب والعشق والجمال ، ويصف الكتاب رحلة الموسيقار العربي (زرياب ) عام 822م عبر البحر إلى الأندلس ، فقد لفت زرياب نظر ركاب السفينة التي ركبها من خلال ملابسه المرتبة الأنيقة التي لم يكن أحد ممن معه في مثل شكله وثيابه وحديثه ، وقد حمل الموشح من الشرق إلى الغرب ، كما حمل معه عدداً كبيراً من الزهور والأطعمة والأشربة ، وغيرها .
فهل آن لنا أن نعود إلى عصر ازدهارنا ؟ من خلال تلك القيم والمعارف التي كانت لصيقة بنا فيما مضى من الوقت ؟ لقد جاء شاعرٌ إلى المأمون بقصيدة يعتقد أنها قصيدة مديح فيه ، وحين وصل بإلقائها إلى قوله :
أضحى أمير الهدى المأمون منشغلاً بالـــدين والناس بالدنيا مشاغيل.21
قال المأمون حسبك لقد هجوتني ولم تمدحني ، لقد حولتني إلى راهب في كنيسة ، فأنا مشغول بالدين والدنيا معاً، من طلقاً من قوله تعالى:”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” وقول الرسول : ” إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا “.
أعتذر لقارئي الكريم على الإطالة ، لكني قد حاولت الاختصار قدر الإمكان ، لأن الكتاب الذي نعرضه يحتاج إلى مزيد من القراءة والتأمل واستحضار ما ورد فيه من الدعوة إلى التسامح والعلم والعمل بمبادئ المعرفة ، إنه لجدير ليكون دستوراً لحياتنا اليومية ، حتى نستطيع اللحاق بركب العالم ، والخروج من القبونا المظلم الذي نعيش فيه .
13 ـ ص229ـ 243
14 ـ راجع ص288ـ 347
15 ـ ص354
16 انظر ص354
17 ـ ص 357
18 نفسه
19 ـ ص371
20 ـص371
21 ـ راجع صبح الأعشى للقلقشندي