ن .. والقلم .. 23 ابريل 1964

عبدالرحمن بجاش
أتذكره ذلك اليوم الاستثنائي , بتفاصيله التي ما تزال مرسومة في ذهني أو منقوشة في أعماقي بما يليق به كيوم من أيام هذا الشعب المغلوب على أمره !! , والذي تتقاذفه أفواه كل من يقترب من الميكرفون بالحق وبالباطل !! . 23  ابريل  64 بالنسبة لي كان فرصة مع اقتراب عيد الاضحى المبارك ان لم تكن ذاكرتي قد شاخت , فرصة للسفر إلى القرية , حيث العيد يعني البرع , ورفاق الطفولة, والتحرر من ضغط المدينة علي بالتحديد , ولزيارة عمتي من أحمل لها جميلا لا يمكن أن يضعف أو يخفت أو يتراجع بمرور الأيام , تلك الإنسانة التي احتضنت طفولتي وضحت من أجلي ومن بعدي , في حكاية حب لم تتوقف الا حين تمنت أن تموت (( وأني أضحك )) , فماتت ضاحكة !!! . ليلة ذلك الصباح جاء من لدن المحافظ يومها المرحوم الأب الحقيقي للثورة  عبدالغني مطهر, وكان يومها محافظا لتعز, جاء من يخبر والدي بألا يسافر (( هناك شخص مهم جدا سيزور البلاد وتعز بعد صنعاء )) , لم يكذب والدي خبرا , فذهب إليه في البيت ليتأكد من هو القادم الكبير, عندما عاد ليلا, سمعته يهمس في أذن جدي وعمه  مبتسما : (( جمال عبدالناصر بيجي )) , خذ عبدالرحمن وسافروا, أنا ما بقدر أسافر, بعد أن ذهب قدمت إلى جدي : (( اسألك بالله يا جد قل للوالد أشتي اشوف جمال عبدالناصر )) , لم أكن أتجرأ حتى للنظر في وجه والدي الا حين يخطب جمال عبدالناصر فارفع صوت الراديو إلى عنان السماء , ولا أحد في البيت يجرؤ أن يقول لي (( اخفض الصوت )) , كانت فرصتي دائما ان اضطهد الجميع ليضطهدوني طوال العام !!! . انطلقت ذلك الصباح 23  ابريل إلى المدرسة , ومن هناك ركبنا (( الِكبْن )) حق البابور (( البدفورد )) حق أحمد الغنامي , ليتحرك بنا ونحن نهتف (( أهلا أهلا يا جمال )) , و (( عاش السلال يا عروبة )) , وصلنا إلى المطار القديم , هالني ما رأيت طوال الطريق , كتل من البشر في كل مكان , وكتل أخرى تأتي, وفي اللحظة التي سمعت الجماهير هدير الطائرة في علو السماء كأنما جن الناس فصاروا يهتفون لأول مرة في حياتهم , فبكيت لحظتها, لا أدري خوفا, أم فرحا, المهم انني بكيت, اختفت الطائرة, لنشاهدها كالنسر الكاسر تهبط في أول المدرج, وتتهادى إلى حيث وقفت, ليفتح الباب ويطل جمال , الذي ما أن رأته تلك الحشود التي لا مثيل لها, حتى شقت السماء بهتاف واحد (( مرحب مرحب يا جمال , أهلا أهلا يا سلال  )) , أطل الرجل بقامته الفارهة , ليرسل يده بالتحية التي اشتهرت عنه , أحسست وكنت في الابتدائية يومها أن الناس أصابها مس ليس من الجنون بل حالة تلبستها خاصة بحبهم لجمال عبدالناصر . يشق الموكب طريقه بين أمواج البشر , وكلما قرب من وسط المدينة ونحن نجري بعده , حين استعيد المشهد الان أسأل نفسي : من أين اتى البشر ؟؟ , وذلك الذي كنت أراه أمامي وحولي لا تكاد تصدقه عين , ناس تضحك, ناس تبكي, ناس تهتف, كله تعبيرا عن لحظة تجلى فيها عبدالناصر أكبر من النخب والأحزاب والساسة, لحظة توحد كل شيء, بكل شيء, الرجل بالناس , وسط المدينة خيل إلى أن الأرض أنشقت واينعت بشرا لا نهاية لهم , قال زميلي : انظر لقد حملوا سيارة جمال والسلال …., لم نستطع أن نتقدم, حال شارع سبتمبر كان يوم الحشر ازف في تلك اللحظة, إلى ميدان الشهداء ويد الرجل لم تكف عن التلويح , واجزم خيالا أنه دمع واليمنيين يهدرون كالموج في يوم عاصف , هو جمال لصيق الشارع . أنه 23  ابريل  1964  , كان يوما يمنيا استثنائيا خاص بجمال والسلال وقبلهما الشعب . لله الأمر من قبل ومن بعد .

قد يعجبك ايضا