الغربي عمران
يقول مترجم الكتاب في معرض تصديره للكتاب” منذ صباي كنت -ومازلت- مولعا مشدودا إلى ماهو غير معتاد, أو ما هو ملتبس وغامض, شأني في ذلك شأن بحار جسور طوحت به الأمواه ذات مساء عاصف إلى عالم سحري’ يفارق عالمنا من غير وجه … ” وما يعنيه المترجم هنا ما جذبه إلى معرفة حياة الغجر.. ليعمل على ترجمة كتاب مشوق بعنوان “الغجر” للسير أتجوس فريزر.. إصدار المركز القومي للترجمة.. القاهرة ط ثانية 2015 .
وهو الذي بين يدينا .. وبدوري كنت قد اقتنيت منه نسخة قبل أكثر من عشر سنوات.. ثم أعرته للصديق المقالح عبد الكريم.. ولم يعده لي.. لأبحث عن هذا الكتاب حتى أقتنيته مرة ثانية في طبعته الجديدة من معرض القاهرة الأخير .. وأقرأه للمرة الثانية .. هناك كتب فقدانها يظل في الذاكرة .
“الغجر” بشر مثلوا ظاهرة إنسانية شبيهة بظاهرة اليهود في تمسكهم وتميز حياتهم رغم الشتات.. فعقيدتهم وصلاتهم وأنماط حياتهم ظلت رغم حياتهم ضمن مجتمعات أخرى ولقرون.. مع الفارق الشاسع بين أسلوب حياة اليهود المتماسك والمحب لجمع المال ورغد المعيشة الاستقرار.. واهتمامهم بأنفسهم وبقيم قد يشتركون مع غيرهم فيها. نجد الكتاب يقدم لنا الغجر بحياة مختلفة نهائيا، فحياة الترحال الدائم ولا أعني بالترحال في إطار محدد كما هم بدو الصحراء.. بل الترحال العابر للدول والأقاليم والقارات .. وإن تقلصت تلك السمة ..بل وتماهت في عصرنا الحاضر ولم يعد منهم من يعيش مرتحلا في العالم بالأسلوب القديم إلا قلة لا يمثلون غير نسبة ضئيلة مما كانوا عليه في ماضي عصورهم.
وأجد في معرض قراءتي لهذا الكتاب.. أن لكل مجتمع غجره وإن اختلفت المسميات. في اليمن كان قوم يعيشون بيننا يشبه أسلوب حياتهم حياة الغجر التي رصدها الكتاب. أذكر صغيرا بأنه كان يفد على ساحة قريتنا بين فترات متباعدة أقوام بنسائهم وأطفالهم ودوابهم .. ينصبون خيامهم ويمارسون حياتهم لأيام .. ببيع ما يبيعون من خيول وحمير وجمال.. وملح.. وما يشترون ما أيضا من مواشي ودواب .. كما أتذكر بأنهم كانوا يجيدون بعض الأعمال التطبيبية .. وإصلاح بعض الأدوات الفلاحية .. وقراءة الطالع من قبل نسائهم.. وكذلك نسج الألحفة الصوفية وإصلاح أدوات الطبخ والزراعة.
أتذكر أنني رأيتهم وعمري لا يتجاوز العاشرة ولم أراهم بعدها. وحين قرأت الكتاب سافرت ذاكرتي إليهم وعرفت أن لهم صلة بالغجر.. وإن كان الناس يعاملونهم كبدو يفدون من الشرق.. يجيدون قول الشعر .. ويترزقون بقوله لوجهاء القوم.
فئة أخرى “المتهمشين” تشبه الغجر في القليل من سلوكهم .. في عدم الاستقرار.. وتفضيل حياة الهامش .. وكذلك اعتماد أكثريتهم على التسول .. وعدم تفضيلهم تعلم حرف أو مهن.. وكذلك عدم الاندماج في التعليم أو الاستقرار أو التفكير بالغد . هم أيضا لهم صفات حياتية تقترب من الغجر.. وإن اختلفت لون بشرتهم فالغجر ذوي بشرة سمراء فاتحة .. إضافة إلى مستوى المعيشة الدنيا التي يقبعون بها بشكل عام . فمن بين الغجر من وصل إلى مستوى متميز موسيقيا.. تجاوز حدود مجتمعه.. كما تتحلى بعض نسائهم بحلي من الذهب.. ومستوى من الحياة المادية الجيدة. أقول بعضهم .. مقابل المتهمشين الأكثر فقرا والأكثر نزعة للحياة الهامشية حتى لو أتيحت لهم فرص حياة أفضل.
يذكر الكتاب أن تسمية الغجر تتغير من مجتمع إلى آخر.. فلدينا دواشين.. وفي السودان حلب.. وفي مصر غوازي أو نور.. وفي الشام نور.. وفي أوربا قبط.. أو روم.. وفي تركيا زط.. وهكذا لهم عشرات المسميات بعضها يدعونها وأخرى تطلق عليهم.
يقول الكتاب بأن جذورهم الأولى قدمت من الشرق هندية .. ولتلك أسطورة تروى, فأحد ملوك فارس طلب من ملك الهند تزويده بعازفين ومغنين لينشرهم على أنحاء بلاده.. بغاية الترفيه على المزارعين لزيادة الإنتاج.. وبعد سنوات طويلة تكاثر أحفادهم وانقطعوا عن موطنهم الأصلي .. ليفاجئوا بطردهم من قبل أحد ملوك فارس .. توجهوا إلى موطنهم الأصلي الهند ولم يقبلوا.. فساروا في الأرض يترحلون.
كما يقول الكتاب بأن لا دين لهم .. وأنهم يدعون في كل بلاد يفدون إليها بدينها.. إلا أن من استقروا أدانوا بدين البلاد بعد أن فرض عليهم الاستقرار.
الغجر يعيشون بمفاهيم متوارثة… كما تشتهر نساؤهم بالجمال وقراءة الكف والطالع.. وكذلك السرقة.. وأولادهم ورجالهم ونساؤهم يجيدون التحايل والسرقة .. فأينما حطوا رحالهم يثيرون الذعر .. وإن كان ما يسرقون لا يتجاوز الملابس والدجاج والمواشي وما يقع بين أيديهم.
الغجر يشتهرون باقتناء وبيع الخيل.. إذ إن حياتهم المتنقلة تعتمد على الحيوانات في جر عرباتهم وحمل خيامهم وما يملكون.
وهم موسيقيون ما هرون.. اشتهروا بعروضهم ومعزوفات الراقصة. وقد اشتهرت أسماء من بينهم كموسيقيين في المجر وروسيا والبلقان وأسبانيا.. وتعتبر رقصة الفلمنكو الأسبانية بموسيقاها أحد أشهر نتاجهم.. إذ إنهم لا يبتكرون بل يطورون موسيقى المجتمع الذي يحلون بينهم.
الغجر تعرضوا لملاحقة وتنكيل واسترقاق وإبادة على مدى عشرات القرون.. إذ إن ظهورهم يعود إلى ماقبل الميلاد. وعبر قرون من المطاردات والاستغلال والإبادة لا لشيء إلا لأنهم يعيشون بنمط مختلف ولا يتقيدون بقيم أو بقوانين البتة.. ومن أبشع الجرائم في حقهم ما وقع لهم من مذابح في الحرب العالمية الثانية .. فاقت ما تعرض له اليهود من قبل النازيين.
الكتاب 370 صفحة من القطع الكبير.. توزعت صفحاته على تسعة فصول. الفصل الأول الأصول.. وضم عدة أبحاث : الدليل اللغوي , الأنثربلوجيا الطبيعية, النظراء السلاليون , الإحصاءات اللفظية. الفصل الثاني الهجرات المبكرة: فارس ,إرمينيا , التماسك الاجتماعي.الفصل الثالث الغجر في الإمبراطورية البيزنطية وبلاد البلقان: بيزنطا وبلاد اليونان’ صربيا وبلغاريا والأفلاق والبغدان. الفصل الرابع الخديعة الكبرى:عهود الأمان الإمبراطوري, خطابات حماية جدية, رصيد متجدد. الفصل الخامس تحول المد: المانيا والنمسا وسويسرا , إسباني والبرتغال, إيطاليا, المجر وترانسيلفانيا, بوهيميا وبولندا ولتوانيا وأوكرانيا, اسلندا وانجلترا, اسكندنافيا, الصور والقوالب , النماذج الأوروبية. الفصل السادس وطأة الأغلال: الطرد والدمج والاقتلاع, الترحيل، الامبراطورية العثمانية, صراع من أجل البقاء, بصيص من ضوء. الفصل السابع قوة التغيير: مفاهيم جديدة , هيمنة الموسيقى, مشهد البراري ومشهد المدن, تحطيم الأغلال, هجرات متجددة المحافظة والطفرة الفصل الثامن الطريق إلى الجحيم: مناهضة الغجر وملاحقتهم, المحرقة المنسية. الفصل التاسع الأزمنة الحديثة: عبور الحدود, البحث عن حلول, أقوام وجماعات, تحولات اللغة, تراث من المتغيرات, حجاج ومحتفلون بالعنصرية, انهضوا يا غجر.
هذا الكتاب قضى فيه الباحث أكثر من ثلثي سنة يجمع مادته مسافرا من قطر إلى آخر.. يتتبع أصولهم .. لغاتهم.. أساليب حياتهم.. المدى الذي وصل إليه انتشارهم .. ما تعرضوا له من ملاحقات واستعباد وإبادة عبر قرون طويلة في قارات العالم.
وما عاشوه بمختلف أساليب حيواتهم المختلف عن أساليب المجتمعات الأخرى .. ولذلك كان ينظر إليهم بوصفهم همج .. دون قيم ولا أخلاق لمجرد أنهم يختلفون في التفكير وفي سلوك حياتهم المختلف. بل وصفوا بآكلي الجيف .. وآكلي لحوم البشر. وتلك فرية تاريخية كبرى.
كتاب يستحق القراءة ليس لما احتواه حول أولئك الأقوام فحسب.. بل لرصده تطور الوعي البشري لذاته. كتاب يجعلنا نعيد النظر في قضايا إنسانية كثيرة .. ومنها ما يحسب على دول أوروبا من قمع وتصفيات وإبادة لمجرد الاختلاف.