للشيخ العلامة محمد الغزالي
الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام ، وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه الأخيار المنتحبين أجمعين، وبعد : –
أخرج الإمام الترمذي في سننه عَن جَابِرٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللِّه -صلّى الله عليه وآله وسلم- قَالَ:(إِنَّ مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيامَةِ أَحَاسِنكُمْ أَخلاقًا، وَإِنَّ أَبغَضكُمْ إِلَيَّ وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، قَد عَلِمنَا الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: المُتَكَبِّرُونَ) (1).
هذا حديث صحيح أخرجه الإمام الترمذي في سننه، في كتاب البرِّ والصلة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، باب ما جاء في معالي الأخلاق.
عند دراستنا للحديث السابق نلاحظ أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قدْ بَيَّنَ لنا منزلة الأخلاق في الإسلام ، ومكانة المؤمن المُتَخلِّق بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أهم مقاصد الإسلام، فَحُسْنُ الخُلُق أصلٌ أصيلٌ في ديننا الإسلامي الحنيف ومعلمٌ شريفٌ من معالمنا ، وديننا الإسلامي بعقائده وشرائعه وشعائره يصبّ في اتجاه صلاح الأخلاق، لأن حُسن الخُلُق من أكثر ما يثقل به موازين الأعمال يوم الحساب ، كما جاء في الحديث عن أبي الدرداء – رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ : ( مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ)(2)، فالأخلاق سياج الأمم، وميزان تقدمها ورقيها، وعنوان عظمتها وخلودها، فالأمم لا تحيا بدون أخلاق ، ولله درُّ القائل:
صَلاحُ أَمرِكَ لِـلأَخلاقِ مَرجِـعُهُ
فَقَـوِّمِ النَفـسَ بِالأَخلاقِ تَسْتَقِمِ
الإســلام يحث على مكارم الأخلاق
ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى مكارم الأخلاق فقد جاء نبينا – عليه الصلاة والسلام- ليقود البشرية إلى الخير ، حيث دعاهم إلى كل فضيلة ونهاهم عن كل رذيلة ، كما أخذ بأيديهم من الظلمات إلى النور، ومن الجُبْن إلى الشجاعة ، ومن البُخْل إلى السخاء والكرم ، ومن الرذائل إلى الفضائل، ومن الظلم إلى العدل ، ومن الخيانة إلى الأمانة ، ومن الكذب إلى الصدق ، ورحم الله القائل:
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
لقد دعا الإسلام إلى مكارم الأخلاق وحثَّ عليها وأمرنا بالالتزام بها والسير على نهجها ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نبينا – صلى الله عليه وسلم – بحُسن الخُلُق كما جاء في قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ( 3 )، فالرسالة الإسلامية جاءت من أجل إتمام مكارم الأخلاق كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ) ( 4) ، ولمَّا سُئلت السيدة عائشة – رضي الله عنها – عن أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت : ( كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ) ( 5)، كما ورد أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو ربه قائلاً : ( اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي) (6)، وفي حديث آخر أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يقول : (اللَّهُمَّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ) ( 7).
وعند دراستنا للنصوص الشرعية نجد أنها واضحة وصريحة في أن الشعائر الإسلامية تُربي المسلمين على وجوب التحلي بالأخلاق ؛ وصولاً إلى الغاية المنشودة وهي طاعة الله عز وجل ، لأن حُسْن الخُلُق من أهم دعائم ديننا الإسلامي الذي لا قيام للدين بدونه ، فعندما نأتي إلى أركان الإسلام يجب على المسلم ألاّ ينظر إلى العبادة وحدها ، فلا ينظر إلى صلاته، ولا إلى صومه ، ولا إلى حَجِّه ، ولا إلى زكاته وحدها، إن لم تُؤَدِّ به إلى الخُلُق الحسن؛ لقوله سبحانه وتعالى عن الصلاة : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } (8) ، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ، وإذا أردنا التعرف على الصلاة المقبولة من الله، فلنقرأ هذا الحديث القدسي الذي يرويه النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي ، وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلَى خَلْقِي ، وَلَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَتِي ، وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِي ذِكْرِي، وَرَحِمَ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالأَرْمَلَةَ ، وَرَحِمَ الْمُصَابَ ، ذَلِكَ نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْسِ ، أَكْلَؤُهُ بِعِزَّتِي ، وَأَسْتَحْفِظُهُ مَلائِكَتِي ، أَجْعَلُ لَهُ فِي الظُّلْمَةِ نُورًا ، وَفِي الْجَهَالَةِ حِلْمًا ، وَمَثَلُهُ فِي خَلْقِي كَمَثَلِ الْفِرْدَوْسِ فِي الْجَنَّةِ)( 9).
وعندما نأتي إلى فريضة الصوم نقرأ قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (10) ، فقد شرع الله الصوم ليهذب النفس ويعودها الخير ويبعدها عن الشر؛ فعلى الصائم أن يتحفظ من الأعمال التي تخدش صومه حتى ينتفع بصومه وتحصل له التقوى، فالصوم ليس مجرد إمساك عن الطعام والشراب؛ بل هو إمساك عن الأكل والشرب وسائر ما نهى الله عنه، لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ) ( 11 ) ، وعنه- صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ) رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ , وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ ) ( 12) .
وعندما نأتي إلى الزكاة والصدقات نقرأ قوله تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (13)، كما نقرأ قوله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ….} (14) .
وفي فريضة الحج نقرأ قول الله سبحانه وتعالى :{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ }(15)، وكذلك قول رسولنا – صلى الله عليه وسلم – 🙁 مَن حَجَّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَع كَيَومِ ولَدَتهُ أُمُّهُ)( 16).
أَثـَـرُ الخُلُقِ الحَسَن
إن الخُلُقَ الحسن هو وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى جميع المسلمين ، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ( اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ( ( 17) .
ومن الجدير بالذكر أن الخُلُق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام ، فقد أقبل كثيرٌ من الناس على الدخول في الإسلام بفضل الله تعالى، ثم بفضل حُسن خُلُقه – صلى الله عليه وسلم – :
* فهذا ثُمَامةُ بن أُثال يُسلم، ويقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – : (… وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ ) (18 ) .
* وذاك أعرابيٌ يقول وهو في الصلاة : (اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا ) ( 19).
* وهذا معاوية بن الحَكَم السُّلَمِيِّ يقول : ( فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ) (20 ).
إن الأخلاق الفاضلة ليست سبب السعادة في الدنيا فحسب، بل هي أساس السعادة في الدنيا والآخرة ، وكفى صاحبُ الخُلق الرفيع شرفاً وعلواً مجاورته للرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في الجنة، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم :(أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ “(21 ) .
هذه هي مدرسة النبوة ، ترشدنا إلى وجوب التحلي بمكارم الأخلاق، وضرورة البُعْد عن الأخلاق السيئة ، فالمسلم حينما يتمسك بالأخلاق الفاضلة فإنها تعود عليه بكل خير، فالرسالة الإسلامية جاءت من أجل إتمام مكارم الأخلاق .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين