عن العقل العربي وإعادة التشكيل..!!
عصام حسين المطري
لم يدر بخلد المثقف العربي آنيا إلا النذر البسيط مراحل الصياغة وأطوار التشكيل للعقل العربي منذ جاهلية العرب الأولى حتى عصرنا الراهن, حيث تعرض هذا العقل لإملاءات الجاهلية الأولى، وخضع لايحاءاتها وأباطيلها الفجة، فلم يمتلك لذلك تصوراً سليماً ودقيقاً عن الكون والإنسان والحياة، ولم تكن له فلسفة واضحة ورؤية عميقة عن علاقة الإنسان بخالقه وبالكون والموجودات المختلفة من حوله حتى جنح إلى تأليه الحجر وعبادة الأصنام في هبوط مروع للعقل العربي الذي لم ينكر وجود الله سبحانه وتعالى في مرحلة من مراحل صياغته, وطور من أطوار تشكيله وإنما اتجه لتلك العبادة زعماً لتقربه الآلهة من الله زلفى في اسفاف غير مسبوق وتبذل غير معهود, فكان مجموع الأصنام حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما, لتبقى هذه المرحلة مرحلة سقوط وانحدار العقل البشري العربي.
وظلت القبائل العربية الأخرى المجاورة لقبائل قريش وغيرها في مختلف الأمصار تعيش في دياجير الانحطاط والتخلف ودهاليز الرق والعبودية والتبعية فينة لفارس, وفينة للروم, وتارة أخرى للأحباش لتبرهن عن عميق انحرافها عن الجادة والطريق المستقيم, فتنوع معبودها فمنها من عبد الشمس, ومنها من عبد القمر والنار والبعض الآخر عبد الله عزوجل من خلال الديانات السماوية المحرفة كالمسيحية أو اليهودية وظل العقل البشري العربي أسيراً للهرطقات والخرافة حيث كانت تقوده الأباطيل والمعتقدات الضالة ذلكم أن معبوده أي العقل لا يمتلك التشريع ولا يستحوذ على التوجيه والإرشاد كونه لا يعقل شيئاً حيث كان البعض يصنع له صنماً من تمر حتى إذا جاع أكله وهذا ما أضحك الخليفة عمر رضي الله عنه ذات مرة.
لقد أمسى العقل العربي في تلك الحُقبة مصدراً للشقاء العربي في مختلف مجالات الحياة المتعددة والمتنوعة فلم يُعرف العرب إلا بأنهم عبارة عن قبائل متناحرة يفجرون الحروب لأتفه الأسباب كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء , هذا فضلا عن إضطراب الحياة الاجتماعية والاسرية إذ كان العرب يمتهنون المرأة ويعتبرونها جالبا للعار فكانوا يقوقون بوأدها حية في التراب ذلك لأن العقل العربي في تلك الفترة من الزمن كان مقيداً بالأوهام والوساوس والظنون الباطلة فأشقى الحياة وأنتج مجتمعات مكلومة مكتئبة تقدس الأباطيل وتجري وراء الهرطقة والجنون لغياب منهج الله القويم في تلك المرحلة الصعبة من حياة العقل البشري العربي.
ولما شاءت عظمة السماء تحرير العقل العربي من ذلك الأسر بعثت في البيئة العربية في عرب قريش خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله القرشي الهاشمي الصادق الأمين بالدين السماوي الخاتم وبالقرآن الكريم الناسخ لبقية الكتب السماوية المهيمن عليها من أجل اخراج الأمة من الظلمات إلى النور قال الله تعالى في محكم أي التنزيل “الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أوليائهم الشيطان يخرجهم من النور إلى الظلمات)، ولاحظ أن النور أتى مفرداً كون الحق واحداً معروفاً لا يتعدد بينما جاءت الظلمات بصورة الجمع تأكيداً على أن الباطل والظلمات متعدد ومتنوع له صور عديدة وكثيرة فانقسم المجتمع القرشي نصفين بين مؤيد وبين جاحد.
إن الانقسام الحادث في المجتمع القرشي والبيئة العربية آنذاك حين ظهور الدعوة الإسلامية طبيعي وبديهي فالحق معروف والباطل معروف بيد أن ثمة مصالح شخصية لأفراد ومجاميع تضررت نسبياً مما أدى إلى ظهور معارضة ووقوف ضد الحق تبعاً لانتماءات منحرفة صبغت بصفة الانحراف لقاء تغليبها على ما عداها من انتماءات سليمة فهذا عمرو بن هشام أبو جهل يؤكد ما ذهبنا إلى تقريره من واقع وذلك حين لقاه أحدهم في الطريق وعاب عليه وقوفه ضد الدين الجديد وهو صاحب العقل الراشد فقال له: لماذا لا تنتمي إلى دين الإسلام فقال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو هاشم الرياسة والمجد فأطعموا وأطعمنا وسقوا فسقينا وكسوا فكسينا ثم جاء ونا بنبي فمن أين نأتيهم بنبي مثله والله لن نؤمن له فأنزل الله سبحانه وتعالى آية تتلى إلى الآن تطمينا لقلب الرسول والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وتطمينا لقلوب الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك الرعيل الأول في صدر الدعوة الإسلامية وهو تطمين لقلوب الحاملين لراية الإسلام في هذا الزمن إلى أن تقوم الساعة قال تعالى “قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فأنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون”.
لقد تمكن الإسلام خلال مراحله الطويلةبإقامة الحضارة العربية والإسلامية التي تمكنت من صياغة وتشكيل العقل العربي المسلم الذي نظر إلى الكون والإنسان والحياة نظرة حصيفة أدبية عمقت ارتباط العربي بهذا الدين الجديد الذي يدعو العالمين رحمة بالإنسان قال تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فمن خلال الإسلام أزيلت تصورات جاهلية هابطة وتم استبدالها بتصورات إسلامية راشدة إعمالاً للفهم الشامل للإسلام فالتبرج جاهلية قال تعالى ” وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى” وما يقابله من احتشام وعدم إظهار الزينة إلا لذي محرم يعد إيلاماً ، فالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يعرف الكل والجزء تبيانا لأهمية الجزء، فحينما يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم :”الحج عرفة” لا يقصد أن وقوف الحاج في عرفة يجزي عن بقية مناسك الحج، وإنما يقصد أن الوقوف في عرفة من أهم مناسك الحج، وحينما سؤل عن الإسلام في ذلك الحديث المطول عن الإيمان والإسلام والإحسان عندما كان يسأله جبريل عليه السلام ليعلم الصحابة رضوان الله عليهم أمور دينهم قام بتعريفة بالجزء وهو الخمسة الأركان المعروفة تبياناً لأهميته بيد أنها ليست الإسلام برمته، فهي عبارة عن أركان متينة يقوم عليها بنيان الإسلام، فكل شيء يوافق أصل الفطرة البشرية السوية يعد إسلاما ونقيضه يوصف بأنه جاهلية.
فعلى جميع أدوات ووسائل التشكيل للعقل العربي والإسلامي كالأسرة والمدرسة والمسجد والنادي الرياضي والثقافي والجامعة والأحزاب والتنظيمات السياسية والحزبية والنقابات المهنية والمنظمات الإبداعية والمتخصصة، ومنظومة الإعلام المتكاملة المقروءة والمسموعة والمرئية سرعة الإسهام وبفاعلية في إعادة التشكيل والصياغة للعقل العربي والإسلامي الذي واجه ذات مرة رياح التخريب وسحابات مسخ الشخصية العربية والإسلامية الأصلية إبان إضلاله لبعض الأمصار العربية والإسلامية، وعقب انبهار العقل العربي والإسلامي بزيف بريق الحضارة المادية الأوروبية وأثناء جهله بحقائق الدين الإسلامي الحنيف والذي كان يعده المنبهرون سببا رئيسا في تخلف الواقع العربي والإسلامي اليوم، والانبراء والتوضيح للعوام وأنصاف المثقفين والمفكرين المخدوعين بإن الإسلام كان ولم يزل مصدر قوتنا وعزتنا، وأن الحضارة المادية الغربية قامت على أنقاض الحضارة العربية والإسلامية التي وازنت بين المادة والروح وكانت ولم تزل أعظم حضارة عرفها الوجود البشري فهذه المستشرقة الألمانية- زيغريدهونكا في كتابها بها شمس العرب تسطع على الغرب ترجع أسباب التفوق العلمي للحضارة الغربية إلى المؤسسين لمختلف العلوم في الحضارة العربية والإسلامية السامقة ، وإلى لقاء يتجدد بكم والله والمستعان على ما يصفون.