قيل وكُتب الكثير عن اليابان و«المعجزة الاقتصادية» التي حققتها بعد هزيمتها الكبرى في الحرب العالمية الثانية. لكن رغم ذلك بقيت صورة المجتمع الياباني مشوبة بالغموض والإبهام في نظر العالم الخارجي.
ومما شاع عنها بشكل كبير أنها نموذج فريد في التاريخ العالمي من حيث قدرتها على الجمع بين الحداثة والتقدم التكنولوجي الذي يشهد لها به جميع العالم، وبين تمسّكها بالتقاليد التي ورثتها من ماضيها التاريخي الذي يمتدّ إلى «آلاف السنين»، حيث تعاقبت على حكم البلاد عشرات السلالات..
وعلاقة اليابان بماضيها هي بالتحديد التي يناقشها ر. تاغارت مورفي، الأستاذ في جامة «تسوكوبا» في العاصمة اليابانية طوكيو، وصاحب العديد من الدراسات والكتب عن اليابان الحديثة، في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان «اليابان وقيود الماضي».
تجدر الإشارة إلى أن المؤلف يجمع سمتين تميزانه عن أغلبية الغربيين الذين كتبوا عن اليابان، فهو أقام في اليابان سنوات طويلة تعرّف خلالها إلى اليابانيين وشاطرهم انفعالاتهم. وهو، من جهة أخرى، خبير في مجال البنوك الاستثمارية، ما يتيح له موقعاً متميّزاً في مقاربته للمسائل الاقتصادية.
السمتان تعطيان هذا العمل بعداً أكثر شمولية من أغلبية الأعمال الغربية الأخرى عن اليابان، خاصّة أن المؤلف يتعرّض لمظاهر متنوّعة من الحياة اليابانية اليوم، كما تبدو ملامحها في البرامج التلفزيونية وفي التظاهرات الفنيّة المختلفة وعالم الطلبة وغير ذلك من المظاهر.
ومن خلال ذلك كلّه يقوم برسم صورة ليابان اليوم، الحديثة، ومحاولة استشفاف توجهاتها المستقبلية. وفي جميع الحالات يدرس ر. تاغارت مورفي، الحالة اليابانية الراهنة وآفاقها القريبة والبعيدة، بالاعتماد خاصّة على ثلاثة محاور أساسية تخصّ «الثقافة والتاريخ والاقتصاد».
وإذا كان المؤلف يركّز في القسم الأول من هذا العمل على إبراز الأبعاد التاريخية في مختلف المحاور عبر مختلف الحقب الزمنية الماضية وبناها السياسية والاقتصادية والثقافية، فإن القسم الثاني مكرّس بصورة رئيسية لدراسة اليابان بـ«نسختها المعاصرة» فيما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويولي المؤلف الكثير من الاهتمام في دراسته لـ«اليابان المعاصرة» ولشرح آليات عمل الاقتصاد الياباني وللمرتكزات التاريخية والثقافية التي ساهمت في تحقيق قفزة نوعية بعد تلك الحرب التي انتهت باستسلام اليابان بعد قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذرّي.
تلك القفزة التي وجدت أحد أبرز تعبيراتها، حسب المؤلف، في أن بورصة طوكيو كانت قبل ربع قرن من الزمن «أضخم من بورصة نيويورك». وبدا آنذاك أن «العملاق الاقتصادي الياباني قادر على أن يكنس من طريقه كل من يفكر بإعاقته».
والإشارة مباشرة بعد تقديم العديد من المؤشرات والوقائع على القفزة التي حققتها اليابان في مدى زمني قصير، أن الاقتصاد الياباني يعطي اليوم «إشارات» في اتجاه آخر، حيث يتم وصفه بأنه يعاني من «حالة من الهمود» في الوقت الذي «يتعاظم عدد الطاعنين في السن بالمجتمع الياباني»، و«تتالى الأزمات بإيقاع أكبر على صعيد الحياة السياسية»، و«تسيطر الشركات الكبرى التي برزت على الصعيد العالمي خلال فترة الازدهار لما قبل عقود على المشهد التجاري الياباني».
لكنّ «مورفي» يفتح قوسين من جديد، ليشير إلى أن هناك ملامح نهوض تلوح في الأفق القريب بالنسبة لليابان. ويجد أحد مؤشرات ذلك النهوض في حصول الياباني هانيو يوزورو على الميدالية الذهبية في رياضة التزلّج الفنّي على الجليد خلال الألعاب الأولمبية الأخيرة في سوتشي..
على العموم تتم إعادة جذور الحالات التي تشهدها اليابان إلى «التاريخ الياباني نفسه». هذا مع التركيز بالنسبة للفترة المعاصرة في هذا الإطار على تاريخ العلاقات اليابانية ــ الأميركية التي يصفها مؤلف الكتاب بأنها «تكاد أن تكون غير صحيّة، بل ومرَضيّة».
وتدلّ في العديد من مظاهرها على أن النظرة الغالبة لدى النخب السياسية الأميركية ترى في اليابان «بلاداً تابعاً» لها. وذلك على خلفية النظرة الأميركية لليابان التي يمتزج فيها «الحذر والازدراء». والإشارة بالتوازي إلى أن هذا على الرغم من التأثر الكبير لآليات ممارسة الديمقراطية البرلمانية اليابانية بالنموذج الأميركي.
وأيضاً على الرغم من العديد من المعاهدات والمواثيق العسكرية والاقتصادية التي تربط بين اليابان وأميركا منذ عقود. ويؤكّد المؤلف القول إن الفهم الجيّد لليابان اليوم، يقتضي أن يؤخذ في الحسبان مشروع «الهيمنة الأميركية العالمية».
مسار تطور
يرى المؤلف أن الغرب لا يعرف الكثير عن حقائق التاريخ الياباني وآليات تكوّن مجتمع هذه الأمّة ذات الحضارة العريقة. وانطلاقاً من هذا يحاول على مدى أكثر من 450 صفحة، مستفيداً من تجربته الشخصية الطويلة في اليابان، والتعرّف إلى مجتمعها عبر التعايش المباشر معه، تبيان مختلف الروابط القائمة بين مجموعة من مظاهر تاريخ اليابان واقتصادها ومجتمعها عبر مسار تطوّرها الطويل.
الكتاب: اليابان وقيود الماضي – تأليف: ر. تاغارت مورفي – الناشر: جامعة أكسفورد ــ 2015 – الصفحات: 472 صفحة.
Prev Post