قراءة في مجموعة (غيبوبة) للقاصة (فكرية شحرة)

> تماهي الكاتب مع محيطه..
فايز محيي الدين

(غيبوبة) هي أول إصدار للكاتبة والقاصة فكرية شحرة، ويقع في 162صفحة من القطع المتوسط، وقد حوى هذا الإصدار بين دفتيه (27) قصة قصيرة.
المجموعة تناولتْ نصوصُها مواضيعَ شتى لقضايا مختلفة ومتنوعة مِن صميم الواقع، حاولتْ مِن خلالها القاصةُ أنْ تُوصِلَ رسائلَ واضحة لكافة فئات وشرائح وطبقات المجتمع مِن أجل معالجة تلك الاختلالات المجتمعية التي تتفشى على مرأى ومَسمَع مِن الجميع.
ولأنَّ نصوصَ المجموعةِ ذات هدفٍ ورسالة مجتمعية، فقد جاءتْ قريبة مِن المباشرة، بمعنى أنَّهُ يمكن أنْ يُطلَق عليها (قصص صحفية) لأنها تناولتْ مشكلات معينة بأسلوبٍ واضح وبسيط دون مواربة.. حيث اعتمدت القاصةُ على السرد المباشر دون أن تعتني بتقنيات القصة الحديثة التي تعتمد على فذلكة الألفاظ وتراكيب الجُمل والوصف الشعري الذي ينزاح بالنص إلى آفاق مِن جمال الصور المركبة والفردية.
ولأنّ أسلوب القصة القصيرة الذي يعتمد الإيغال والاختزال والتراكيب الشعرية والانزياحات قد لا يفهمه السواد الأعظم من الناس، فقد عمَدَت القاصة إلى المباشرة التي يعيبها الكثير من النقاد على المبدعين، لكنها تعمدتها لتوصل رسائلها بشكل سريع ومبسط، كونها تكتب للعامة وليس لفئة محددة، لهذا فقد خاطبتهم بما يفهمون. وهنا نعتبرها ناجحة فيما رمتْ إليه، كونها أوصلتْ رسائلها كما ينبغي لتُحدِثَ الأثر المطلوب والذي كان يجول في ذهن القاصة لحظة كتابتها لكل نصٍّ من نصوصها.
أوَّل قصة في المجموعة جاءتْ تحمل عنوان (العرجاء) وهي تصف مأساة فتاة ريفية مُصابَة بعَرَج في قدمها، وقد كان يُطلَق عليها من قبل العامة (العرجاء) دون مراعاة لمشاعرها ونفسيتها أبدا، وهذا ما أدى إلى حرمانها حتى من الدراسة، وكانت مهمتها رعي بقرة أهلها في الوديان والجبال.
حين كانت تمر في القرية وهي صغيرة ويناديها الأطفال بالعرجاء تعود لهم وتقذفهم بالحجارة وهي غاضبة وتكيل لهم السباب واللعن، لكنها حين شبّتْ وصارت فتاة ناضجة بدأتْ تخجل وتداري ألمها بصمتٍ قاتل. لم تكن تستطيع الرد عليهم سوى بدموعها وآلامها التي تمزق كبدها.
كانت تتمنى أن يعاكسها شباب القرية بكلامٍ غزلي كما يفعلون مع فتيات القرية حين يترصدون عودتهن من الوادي والمرعى على نواصي شوارع القرية وضواحيها.. لكنها لم تفز بذلك أبدا.
ظلَّ هذا حالها حتى تعرَّفتْ على أحد شباب القُرى المجاورة لقريتهم والذي كان يتحدث معها بود وإنسانية في بعض الشعاب والجبال على طريق عودته لقريته. سحرَها تعامله الإنساني الراقي ووقعت في حبه رغم أنه متزوج. حين رآها الغوغاء من أبناء القرية خافت أن يقتلها أهلها كون حديثها مع ذلك الغريب فضيحة من العيار الثقيل، فلم يكن أمامها من حَلٍّ سوى أن تترك البقرة لتعود أدراجها نحو المنزل لتهرب صاعدةً عند مغيب الشمس نحو أعلى الجبل وترمي بنفسها نحو الهاوية!!
في قصتها (زوجة لرجُلين) تعكس القاصة فكرية شحرة فكرة نادرة تحدث لامرأة أحبَّتْ زوجها بإخلاصٍ نادر، ولهذا رفضت الزواج بعد وفاته رغم أنها شابة في مُقتبل العمر. وحين أرغمها أهلها على الزواج بآخر ظلَّتْ وفيّة لزوجها المتوفى بروحها وقلبها وكيانها، ولم يكن للزوج الثاني منها سوى الجسد.
ولأن زوجها الثاني كان يعاملها برُقيٍّ ولُطف فقد عاشتْ في عذاب وتعاسة بين مشاعر متضاربة: محبَّة لرجل رحل وإشفاق على رجل مازال يحيطها بكل احترام ومحبة (أنا لم أخن أيَّاً منهما مع الآخر.. أبداً لم أفعل.. لقد كنتُ أخونُ نفسي طوال الوقت).
بهذه المشاعر المضطربة عاشتْ حياة جحيم وألم ومرارة لا يشعر بها أحد سواها.. لتجزم القاصة على لسانها بأنها كان ينبغي أن تكون أقوى لمرة واحدة في خياراتها وترفض ذلك الزواج لتعيش مع طيف وروح وذكرى زوجها المتوفى للأبد.
وعلى نفس المنوال من تناولها لحالات إنسانية ظلت القاصة تسرد لنا حكايات من صميم الواقع لمآسٍ مجتمعية ملموسة، في محاولةٍ منها لعكس وإبراز تلك العادات المجتمعية الخاطئة لتصحيحها ومعالجتها. ونجد ذلك جليَّاً في قصصها: (القلوب النظيفة) و (الميراث اللعين) و (بنت الأصول) حيث تتناول فيها قضية الصراع الطبقي والتمييز الفئوي بين مَن يُسمَون بالأخدام والمزاينة والحلاقين والجزارين وبين القبائل (المناصب). وقد كانت القاصة موفقة لأبعد حد وهي تتناول تلك القضايا بمصداقية وإحساس عالٍ يجعل المتلقي يعيش المأساة نفسها لأبطال وشخصيات تلك القصص، ما يعني أنها نجحت في توصيل رسالتها دون تشويش أو إعاقة.
(الهاربة) و (العائدون من النسيان) و (حاج تهريب) في هذه القصص تناولت فكرية شحرة مآسي الغربة وما ترافقها من آلام ومشكلات أُسرية ومجتمعية نتيجة ترك رب الأسرة لوطنه. وقد توفقت في ذلك وعكستْ تلك المشكلة بوضوح تام كونها (القاصة) تنتمي لمجتمع لا يخلو فيه بيت من مغترب، بل يعيش الكثير من أبنائه على الغربة.
لهذا فقد كانت أصدق مَن كتب عن مآسي الغربة وآلامها وتبعاتها، خاصة حين ينشأ جيل مختلف بثقافته وفكره وآرائه خارج وطنه الأصل ويعود ليصطدم بواقع وعادات وتقاليد اليمن التي لا تمت لما تربوا عليه في بلاد الغرب بأية صلة. وهنا تحدث المآسي كما وقع مع (الهاربة) التي تربت في أمريكا وكان لديها الجنسية الأمريكية وتم تزويجها بأحد أقربائها الذي تزوجها طمعاً في الحصول على الجنسية الأمريكية، وحين تحقق له ذلك انقلبتْ معاملتُه لها للأسوأ، ثم عاد بها لليمن وتركها وعاد لأمريكا وأهملها وأوصى عليها أخاه الذي كان يضربها ويعاملها بسوء مطلق حتى أمام أولادها، ما اضطرها إلى الهروب للسفارة الأمريكية ومغادرة اليمن وترك أولادها وهي تتمزق عليهم حسرةً وألَما.
بعض القصص يستشف المتلقي مضمونها من خلال عناوينها مثل: (بنت الأصول) و (حاج تهريب) و (من حقي أن أتألم) و (حكاية أسيرة) وهي قصص تنقل صوراً من صميم الواقع دون الاهتمام بفذلكة السرد أو تعتيمه ليكون النص مدهشا.. فقط القاصة لديها رسالة وتود إيصالها للمتلقي بأيسر السُبُل دون مواربة أو تشويش، ولعمري لقد نجحتْ في ذلك وحققت أهدافها بشكلٍ تام.
والمجموعة عموماً تعج بالنصوص التي تتركُ في المُتلقي أثراً وتجعلهُ يعيش أحداثها خطوةً خطوة، ولا يمكنه نسيانها ولو بعد فترة، بل إن الكثير منها تصلح لأن يتم عكسها في سيناريو لتكون أفلاماً سينمائية تعالج قضايا واقعية ويكون لها تأثير كبير وصدىً أوسع.
وأتمنى من القاصة ولوج عالم السيناريو، فأسلوبها يدل على أنَّ لديها القدرة على النجاح فيه.

faiz444888@gmail.com

قد يعجبك ايضا