السياسة قبل الطهارة أحياناً

انفعالات سياسية ونفسية في دورات المياه
تحقيق/ وائل الشيباني
منذ بدء الحرب الغادرة والحصار على بلادنا تحولت حمامات المساجد من أماكن للطهارة إلى مقار للتعبير عن الآراء المختلفة وملجأ آمن  للمناكفات السياسية وهذا ما نلحظه في تلك الكتابات والرسومات  التي انتشرت في حمامات الوضوء … وتكون البداية عند قيام أحد الشباب بالتعبير عن رأيه السياسي من خلال كتابة ما يريد على جدار الحمام من الداخل وهذا ما يغيظ شاباً آخر مخالفاً له في الرأي  فيقوم بأخذ قلم كما فعل سابقه للرد عليه وتصحيح وجهة النظر الخاطئة ليعود بعدها الأول للتعليق مرة أخرى, وهكذا نرى تلك الكتابات تزداد حتى تملأ جدران حمام الوضوء …. أسباب انتشار هذه الظاهرة وعلى ماذا تدل وكيف يمكن التخلص منها وغيرها من التفاصيل تجدونها في سياق التحقيق التالي:
فرضت السياسة نفسها على المواطن اليمني وباتت الشغل الشاغل للكبير والصغير معاً وبات الحديث فيها وسيلة للتعبير عن الكبت الذي يعاني منه غالبيه المواطنين اليمنيين بسبب الحصار والحرب التي أرهقت الاقتصاد وصعبت من المعيشة على غالبية أفراد الشعب مما أثار موجة من الغضب والتذمر وتبادل الاتهامات بين أفراد المجتمع وهذا ما جسدته تلك الكتابات على الحمامات.
الحرب فرضت علينا نمط تفكير مختلفاً عن السابق وهذا ما نلاحظه في حديث الكثير من اليمنيين سواءً في مقار عملهم أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى داخل الأسرة وفوق وسائل النقل وأخيرا في جدران حمامات المساجد, هذا ما قاله  ياسر حمزة موظف علاقات عامة في إحدى الشركات وعلق ساخراً بالقول : جدران حمامات المساجد تحولت إلى صحيفة إخبارية فمن أراد أن يتابع المستجدات الإخبارية فما عليه سوي الدخول إلى تلك الحمامات، وأنهى حديثه بالقول : لا أنكر أن واقع اليمن بعد الحرب والحصار أجبر المواطنين على الحديث في السياسة وتطورات الوضع لكن هناك حدوداً لكل شيء, والكتابة بحمامات المساجد أمر قد تجاوز تلك الحدود المعقولة للتعبير عن الرأي.
ظاهرة مزعجة
لم يخف عبدالقادر محيي الدين أستاذ في مركز التوحيد لتحفيظ القرآن الكريم استياءه من هذه الظاهرة المزعجة كما وصفها وقال : أن سلوك من يقوم بالكتابة على جدران الحمامات سلبي يعبر عن صاحبه, كيف لا وهو يقوم بالتعبير على رأيه في جدران الحمامات التي خصصت للوضوء لا لغيره من الأعمال السلبية  كالكتابة والرسم على جدران تلك الحمامات وما يزيد الطين بلة كما قال هو قيام أشخاص آخرين بالرد على كتاباته عبر كتابة نصيحة له بعدم القيام بهذا العمل، متناسين بأنهم بذلك يقومون بتكرار نفس الخطأ الذي انتقدوا غيرهم عليه.
وختم محيي الدين حديثه بالقول: على هؤلاء أن يراعوا قبل كل شيء حرمة المساجد وملحقاتها وعدم إقحامها في الصراعات السياسية فهذا بيت الله أولاً وأخيراً وعليهم أيضاً أن يحسوا بعامل التنظيف الذي يحمل على كاهله مسح الكتابات والشتائم من على جدران الحمامات وهذا عمل مرهق يزيد من عبء عمله ويضاعفه.
الرغبة في التعبير
الكتابة والرسم, سواء على الجدران أو خلف أبواب المراحيض، تصبح ظاهرة مجتمعية تعبر عن رغبة لدى أصحابها في التعبير عنها، إنْ بغرض السخرية والهزل فقط أو من أجل بعث رسالة قد تكون جدية أحيانا عندما يتعلق الأمر بقضية سياسية مثلاً.
هذا ما أكده الباحث في علم الاجتماع السياسي / رشيد بكاج, وأضاف أن مثل هذه الأعمال قد  تصبح تعبيرا عن الحاجة إلى تخليد شيء ما أو حدث ما، أو إشراك الآخر في ذلك سواء كان معلوما أو غير معلوم، وعندما يخط أحد على الجدران فإنما يكون ذلك نتيجة انفعال نفسي، بحسب ما يراه علماء الاجتماع، الغرض منه هو إما لفت انتباه الآخرين لفعل شيء أو الامتناع عنه، أو التعبير عن شعور كامن بالداخل قد يكون حسنا كمن يتذكر اسم حبيب، أو قد يكون سيئا كمن يسب شخصا ويسيء إليه بكلام حاقد وبذيء بغرض النيل منه، كما قد يكون الغرض من خلال الكتابة على الجدران أو خلف أبواب المراحيض هو بث خطاب ذي
حمولة ثقافية أو سياسية لدى فرد أو جماعة، من أجل استقطاب أتباع أو لفت اهتمام المسئولين, فظاهرة الكتابة والرسم والنقش على الجدران، ظاهرة لها دلالات في المجتمع المعاصر تبرز من خلال الرغبة في التعبير، وبرزت بالخصوص في الثلاثينيات من القرن الماضي، بحسب الباحث بكاج، عندما اتخذتها النازية وسيلة.
تعظيم بيوت الله
أما بالنسبة لرأي علماء الدين حول من يقوم بالتعرض لممتلكات المساجد أو حمامات الوضوء بأي تشويه أو ضرر فقد تحدث إلينا الداعية / محمد محمد صالح قائلاً : الأصل في الدين هو تعظيم بيوت الله ومرفقاته والحفاظ عليها من أي ضر ورعاية حرمتها وتنزيهها من اللغو الباطل والعبث وما نحو  ذلك, فقد قال تعالى ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له في الغدو والآصال ) فالمسجد وجد لذكر الله عز وجل وكذلك الحمامات التي فيها بنيت للطهارة لا لشيء آخر فمنها يستعد المصلى للصلاة من خلال الوضوء لذا فعلى كل من يستخدم هذه الحمامات أن يحافظ عليها نظيفة من التشويه والإسراف بالماء وغير ذلك  لان النظافة من أخلاق المسلم السوي وأن لا يعبث بممتلكات المساجد ومرافقها حتى لا يقع  بالإثم.
تفريغ المكبوتات
من جهتها الأستاذة المختصة في علم النفس، “سعاد بوفتاش”، عبّرت لنا عن الظاهرة قائلة: “الكتابة على الجدران هي ظاهرة مستوردة عن قشور الحضارة الغربية ترتبط هذه الآفة إن صح التعبير بالأسباب والتغيرات التي يعرفها المراهق  الذي يقوم بالكتابة على الجدار في نموه الانفعالي الذي يشكل مصدر قلق بالنسبة إليه، ولذلك يلجأ إلى الجدران الذي يعتبرها بمثابة فضاء للراحة، والكتابة كوسيلة لتفريغ مكبوتاته وللتعبير عن مواقفه تجاه ذاته أو تجاه الآخرين، وقد يخرج من خلالها المبادئ المحددة للسلوك في المجتمع، ويتميز النمو الانفعالي للمراهق في هذه المرحلة العمرية بجملة من الخصائص مثل الإحباط والتوتر والحساسية المفرطة والتردد في اتخاذ القرار.. ولذلك فالكتابة على الجدران من هذه الزاوية هي نتيجة لحرمانه  من إشباع حاجاته الأساسية من أمن، محبة، تقدير، حرية، نجاح وسلطة ضابطة “مادية ومعنوية”، ويمكن تبيّن ذلك من خلال بعض الكتابات الحائطية الدالة التي يعبر فيها عن ألمه النفسي، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نلاحظ أن  مثل هذا السلوك غريزي في مثل هذه الفترة العمرية.
دراسات عالمية
أخيراً.. من الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن دراسة هولندية حديثة أظهرت أن الكتابة أو الرسم  على الجدران يؤثر بشكل سلبي على سلوك الأفراد. واتضح من خلال الدراسة الميدانية التي أجراها علماء من جامعة جرونينجن في هولندا أن وجود الكتابات أو الرسومات على الجدران  يزيد من استعداد الأشخاص لمخالفة النظام بشكل كبير.
وأشار فريق الخبراء الذي أجرى الدراسة تحت إشراف البروفيسور كيس كليزر إلى أن استعداد الأشخاص لمخالفة القواعد أو القوانين يرتفع حينما يلاحظون أن هناك قواعد أخرى تنتهك مثل وجود كتابات أو رسومات على الجدران في الشوارع.
وتؤكد هذه الدراسة نظرية تعرف باسم «النوافذ المكسورة» التي تذهب إلى أن وجود زجاج مكسور أو نقش أو رسم وكتابه على الجدران أو في الأحياء  يزيد من استعداد الأفراد لارتكاب المزيد من المخالفات والجرائم الصغيرة.

قد يعجبك ايضا