»‬زبيـــد تستصـرخ‮«

أمة الرزاق جحاف –
أجتر مرارة ألمي‮ ‬وأضع‮ ‬يدي‮ ‬على قلبي‮ ‬وأتجرع معك كأس الوجع قطرة قطرة‮ ‬أعيش لحظات خوفي‮ ‬عليك ثانية‮.. ‬ثانية‮ ‬بإحساس موجع بالقلق لم أعش مثله من قبل‮.‬
تتبدين لي‮ ‬في‮ ‬أحلامي‮ ‬حزينة دامية القلب‮ ‬من القرارات الرسمية‮ ‬التي‮ ‬صدرت بشأنك والتي‮ – ‬بعد استبشارك بها‮ – ‬تتمنين لو أنها ما صدرت عن أعلى قمة في‮ ‬الدولة‮ ‬لأن عجز الدولة المخجل عن تطبيق قوانينها

‮ ‬كشف لك ولنا مدى ما تعانيه من ضعف وعجز‮ ‬ومدى اللامبالاة التي‮ ‬تتصرف بها الحكومة ورئيسها تجاه الثقافة والتاريخ والهوية‮ ‬بدليل أن حمى المخالفات ما اشتد ساعدها إلا بعد اجتماع مجلس الوزراء‮- ‬على مقربة منك في‮ ‬مدينة الحديدة‮- ‬ستظلين تحلمين بالإنقاذ وكنت ستأملين أن المانع من إنقاذك ليس إلا جهل الدولة بما تعانينه‮ ‬على الأقل من باب مواساتك لنفسك‮ ‬ولكن ما أوجع الحقيقة التي‮ ‬اتضحت صورتها‮ (‬لأن ظلم ذوي‮ ‬القربى أشد مرارة‮).‬
وفي‮ ‬صحوي‮ ‬تبدين لي‮ ‬كامرأة حائرة‮ ‬تواجه وحيدة ظلم المجتمع‮ ‬وتبحث عن منقذ‮ ‬يمد لها‮ ‬يد العون‮ ‬وقد بدأت لحظات العد التنازلي‮ ‬لإعلان خروجك من قائمة التراث العالمي‮ ‬التي‮ ‬تربعت فيها فخورة بنفسك‮ ‬مزهوة بتاريخك‮ ‬إلى جانب أخواتك من المدن العالمية‮.‬
ترى‮ ‬يا زبيد كيف ستتقبل فاس المغربية‮ ‬ودمشق السورية‮ ‬وتلمسان الجزائرية‮ ‬خروجك من بينهن هذا الخروج المخزي‮ ‬والمخجل¿
هل سيشعرن بالإشفاق ¿ أم سيشعرن بالخوف من مصير مماثل¿
لكن لا‮ ‬يا زبيد لا أعتقد أنهن سيتعرضن لما تعرضت له‮ ‬لأن الأهل هناك‮ ‬يملكون من وعي‮ ‬الثقافة ما‮ ‬يجعلهم‮ ‬يحافظون على بقائهن في‮ ‬قائمة التراث كما‮ ‬يحافظون على بؤبؤ العين‮ ‬ليس فقط لجمالهن أو لعبق التاريخ الذي‮ ‬يتضوع من أزقتهن‮ ‬وإنما لأنهن‮ ‬يشكلن مصدراٍ‮ ‬مهماٍ‮ ‬من مصادر الدخل القومي‮ ‬ومنبعاٍ‮ ‬تنموياٍ‮ ‬لا‮ ‬ينضب ومجالاٍ‮ ‬للاستثمار الثقافي‮ ‬خيراٍ‮ ‬من مليون بئر نفطية‮ ‬ولنا في‮ ‬تجربة دمشق مع‮ (‬باب الحارة‮) ‬مثال واضح من خلاله عرفنا كيف استثمر الدمشقيون تراثهم الشعبي‮ ‬وقدموه بكل تفاصيله في‮ ‬مسلسل‮ ‬يتحدث عن الحياة في‮ ‬حارة شعبية بكل ما تحتويه من عادات وتقاليد وأزياء وفنون شعبية جعلت الأسرة العربية تتسمر أمام شاشات التلفزيون طوال شهر رمضان الكريم لخمس سنوات ¿
وكيف ستتقبل صنعاء مغادرتك لقائمة التراث التي‮ ‬تربعت فيها بعدها ¿ هل ستفتقد‮ ‬غيابك ¿ أما سيشغلها عن ذلك الخوف الرهيب من مصير مماثل ¿ ومع خوفنا عليها لكنها على الأقل أحسن حظاٍ‮ ‬منك‮ ‬فقد تكاتفت الجهود وتشابكت أيدي‮ ‬سبأ بين الأخ عبدالقادر هلال أمين العاصمة والسلطة المحلية والدكتور ناجي‮ ‬ثوابه رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية هبوا تلبية للواجب ومستجيبين لصوت استغاثتها‮ ‬يعاونهم أبناء المدينة التاريخية المدركون لأهميتها وهاهم‮ ‬يبذلون جل جهودهم ويعملون ليل نهار من أجل صونك وحمايتك والمحافظة على كل عبق التاريخ الذي‮ ‬يتضوع من أحيائك العتيقة أمانة‮ ‬ينقلونها إلى الأجيال القادمة‮.‬
وأنت‮ ‬يا زبيد ترى هل سيستجيب المسؤولون عنك لصوت العقل والحكمة لإنقاذك ويفيق أبناؤك من سباتهم العميق قبل فوات الأوان أم قد أصابتهم الذبابة الرملية بما‮ ‬يسمى بمرض السبات الطويل‮.‬
أم أنك‮ ‬يا زبيد سوف تتمنين لو أن لك ابناء كأبناء شبام حضرموت النجباء الذين هم بأنفسهم حريصون على المحافظة على الهوية الثقافية المميزة لمدينتهم‮.‬
آه‮ ‬يا زبيد‮.. ‬ليتني‮ ‬أملك أن أوقف عقارب الزمن‮ ‬وأحول دون تدفق ثوانيه‮ ‬باتجاه العد التنازلي‮ ‬الذي‮ ‬بدأت عقارب زمنه‮ ‬تضعنا أمام كارثة ثقافية حضارية‮ ‬لا أدري‮ ‬بأي‮ ‬قوة نفسية ومعنوية سنواجهها‮ ‬ولا ما هي‮ ‬الأعذار والمبررات التي‮ ‬سنقولها لأحفادنا وللأجيال القادمة‮.‬
‮ ‬ليتني‮ ‬أمتلك وسيلة سحرية‮ ‬أتمكن بواسطتها من انتشالك من بين مخالب التدمير‮ ‬ومعاول الجهل لأخفيك عنهم بين اضلعي‮.‬
ليتني‮ – ‬يا جوهرة التاريخ‮ – ‬أستطيع أن أحتضن كل‮ ‬ياجورة هوت من مكانها‮ ‬بأيدي‮ ‬المخربين‮ ‬فأداوي‮ ‬جراحها‮ ‬وأخفف ألمها‮ ‬وأعيدها معززة مصونة إلى مكانها بين أخواتها‮ – ‬هناك‮ – ‬حيث وضعتها‮ – ‬ذات‮ ‬يوم‮ – ‬في‮ ‬ذات زمن‮ – ‬يد أحد الفنانين من أجدادنا المعماريين العظام‮ ‬الذين لا‮ ‬يزال طينك‮ ‬يحمل عبق عرقهم‮ ‬وزخارفك تحمل أثر بصماتهم‮ ‬محفورة في‮ ‬قضاضها ونورتها‮.‬
حقيقة الحزن‮ ‬يا زبيد‮ ‬أعيشها كلما فكرت في‮ ‬مقدار الألم الذي‮ ‬تشعرين به‮ ‬وأنت‮ ‬تتعرضين لعملية تغريب قسرية‮ ‬تغترب بواجهاتك الجميلة‮ ‬عن الهوية المتميزة التي‮ ‬حملتها بيوتك منذ مئات السنين‮ ‬وجعلتك بجمالك الفريد تبهرين كل العالم وتفتنين كل من‮ ‬يزورك ما عدا أبنائك‮ !!!‬
أليس هذا‮ ‬غريبا ¿ أسمعك تهمسين متسائلةٍ‮ ‬بألم‮ ‬وأنت تأنين وتنزفين تحت معاولهم‮ ‬التي‮ ‬تمزق خصوصيتك وتهتك حرمة جسدك أليس هذا‮ ‬غريباٍ‮ ‬¿‮!.‬
نعم‮ ‬يا مدينة الحضارة‮ .. ‬إنه أمر محير لي‮ ‬ولك ولكل محبيك‮ ‬كلنا نعجز عن فهم ما‮ ‬يحدث‮ … ‬كيف‮ ‬يكون أبناؤك‮ ‬يا زبيد‮ – ‬من أعلى سلطة في‮ ‬المجلس المحلي‮ ‬إلى ممثل أعلى سلطة للدولة في‮ ‬المحافظة‮ ‬إلى مواطنيك من رجال ونساء هم سبب مأساتك¿‮!‬
ألا‮ ‬يوجد بينهم رجل رشيد¿ كيف‮ ‬يعملون بإصرار عجيب على طمس هوية مدينتهم‮ ‬في‮ ‬حملة اغتيال حضاري‮ ‬لم‮ ‬يسبق لها مثيل‮ ‬وكأنهم‮ ‬يريدون أن‮ ‬يتخلصوا‮ – ‬بأقصى سرعة‮ – ‬من عبء أمانة الإرث التاريخي‮ ‬والحضاري‮ ‬الذي‮ ‬يحملونه على أعناقهم‮ ‬وكأنهم‮ ‬يخجلون من انتمائهم إليه‮.‬
أيعقل‮ ‬يا زبيد‮ (‬العلم والثقافة‮) ‬أن‮ ‬يتسابق أبناؤك فيما بينهم أيهم‮ ‬يسبق‮ ‬غيره في‮ ‬وضع معوله على جسدك ليؤكدوا للمجتمع الدولي‮ ‬أن الجيل الجديد من أبنائك لا علاقة لهم بالعلم والثقافة ولا بالشعر والأدب‮.‬
الجيل الجديد من أبنائك‮ – ‬للأسف‮ – ‬تخلوا عن كل شيء من أجل مشاريع سياسية ضيقة مشخصنة تحقق مكاسب شخصية محدودة على حساب تاريخ وطن وهوية ثقافة وطنية رافضين أي‮ ‬حلول وطنية أو دولية تستهدف إنقاذ المدينة‮ ‬مصرين على تحويلها إلى مدينة اسمنتية ميتة فلا هي‮ ‬بإمكانها أن تصبح دبي‮ ‬التي‮ ‬وإن خنقت زائرها بأبراجها الإسمنتية‮ ‬وناطحات السحاب العملاقة‮ ‬إلا أنها تعوضه بما تحققه له من متعة التسوق وفائدة الصفقات التجارية‮.‬
ولا هي‮ ‬بإمكانها أن تكتسب خصوصية متميزة بديلة تعوضها عن ما فقدته‮..‬مؤلم أشد الألم‮ ‬أن تغدو زبيد مجرد مدينة عادية بلا نكهة ولا هوية‮ ‬لأنها بعد خروجها المخجل والمهين لكل اليمنيين حكومة وشعباٍ‮ ‬من قائمة التراث ستغادر أيضا ذاكرة التاريخ بعد عقود طويلة من تربعها فيها‮ ‬ولكن هي‮ ‬رغبة أبنائها‮ ‬وتهاون المسئولين الجدد في‮ ‬الدولة المدنية الحديثة التي‮ ‬لا أدري‮ ‬كيف‮ ‬يسعون لتحقيقها وهم‮ ‬يهدرون أهم مقوماتها‮.. ‬إذ كيف تْبنى الدولة المدنية إذا لم تكن الثقافة أهم أسس بنائها ومع كل هذا الألم واليأس الذي‮ ‬تعيشينه استغرب‮ ‬يا زبيد أن‮ ‬يظل لديك الأمل وأنا أسمعك في‮ ‬كل ثانية تستصرخين الجهات المعنية وتستنجدين كما استنجدت امرأة عمورية بالمعتصم لإنقاذها من همجية أعداء الحضارة وتهيبين به أن‮ ‬يسرع في‮ ‬توجيه نداء عالمي‮ ‬ليصل نداءه عبر الأوتوموسفير إلى أقاصي‮ ‬الأرض فيأتي‮ ‬لنجدتك أقوام من خلف البحار البعيدة والموانئ النائية‮ ‬يأتون ملبين نداء الإستغاثة من تجمعهم بك رابطة الثقافة والإنسانية والتواصل الحضاري‮ ‬وسترينهم قادمين مسرعين‮ ‬يقطعون المسافات الشاسعة‮ ‬يطوونها طي‮ ‬المسافات بين العين والأذن لنجدتك وإنقاذك وإنقاذ أخواتك مدن الكنوز اليمنية‮.‬

قد يعجبك ايضا