ن ..والقلم .. عندها سرطان …
كانت الساعة تشير إلى الثالثة عصراً , كان علي أن أحث الخطى نحو عزاء سعادة السفير في قاعة قريبه من سكني , لم يكن الشارع لحظتها مزدحما أمامها , ما سهَل الدخول بالسيارة إلى الساحة التي عجت بالسيارات من كل شاكلة ولون , أطليت براسي أسال طفلا صغيرا بدا مبتسما وعمره يقترب من الثامنة وهو يقول لي :” هذا عزاء الميت , قلت : من هو الميت ؟ قال : الميت , أطلت النظر في وجهه وشكله , بدا وسيما , نظيفا , بيده رزمة من الجوارب , وجهت سؤالي إلى أحدهم وكان يجلس إلى كرسي على باب القاعة : هل هذا عزاء السفير ……قاطعني : نعم , كان يحمل رشاشه الآلي , وعلى خده كومة من قات !!! , التقيت أحد من احترمهم , بادرني بالسؤال : كيف ؟ قلت أنا ضاحكا : السؤال موجه لك , قال : مدري إلى أين سيذهبون بنا !! وصمت , دلفت إلى القاعة , أديت واجب العزاء , وجلت بنظري امسح الحضور , فكان الجميع منهمكا بما اختزنته أفواههم , وما هو مفروش أمامهم في الأكياس والمناديل , عدت أدراجي بعد أن استأذنت , ليقف الطفل أمامي من جديد مبتسما , شكله يوحي بالطمأنينة , كانت الرزمة التي في يده من الجوارب يعرضها للبيع , وعمل الأطفال هو في حد ذاته قضية يبدو لي انه سيكون مضحكا لو أناقشها في لحظة تضيع الطفولة فيها بفعل القذائف والصواريخ من كل شاكلة ولون , أما لو وسعت النظرة الفاحصة في عالم الطفولة , فستجد العشرات قد تحولوا تحت وطأة الحاجة إلى مقاتلين قبل الأوان , يجعلني الأمر أتذكر رواية محمد عبدالولي ((يشيبون عند الفجر)) , هناك كانوا يشيبون عزة من اجل وطن ظللنا نحلم به ودفع كثيرون حياتهم في سبيله , فلم نصل إليه !!! , الأطفال في هذا الظرف الطرف الأكثر تعاسة وقهرا , وهم من يظلمون كل لحظة , ولا يدرون أي مستقبل ينتظرهم !!! , قلت : ما اسمك ؟ قال : أحمد , قلت : ماذا تريد ؟ قال : اشتري مني , قلت : لست محتاجا للجوارب , ضاحكا أضفت : أنا بحاجة لأرجل وطريق , لم يفهم عمره الغض ما أقصد : اشتري مني , قلت : لا أريد , عاد يخاطب ابني الذي كان يقود السيارة : وأنت اشتري , فلم يرد عليه , فيم السيارة تتحرك , لاحظت أن رجله الشمال بلا حذاء , واليمنى بصندل , ظننت أنها محروقة , شكلها أوحى بذلك , قلت : ماذا حدث لرجلك ؟ قال : مر التائر عليها , كانت الجراح بادية للعيان , عاد يقول : اشتري مني , أمي مصابة بالسرطان , وصلت العبارة إلى أذني صادمة, مرعبة , كيف ؟ : أمي مصابة بالسرطان وأريد إنقاذها , مد ابني يده إلى جيبه وأخرج ما جادت به , لأصدم من جديد : لا أريد , أريد أن تشتروا , كان المبلغ صغيرا , لا يساوي سعر جورب حتى , قال ابني : خذ , قال بعزة نفس لا حدود لها : لا لا أريد …اشتروا مني وبس ……..دار راسي ولا يزال , والعبارة تدوي في أعماقي : اشتروا….. أمي مصابة بالسرطان … لله الأمر من قبل ومن بعد .