ظواهر العنف التي تتكرر في المؤسسات التعليمية الأميركية تثير الكثير من الأسئلة والنقاشات تلك التي تتعلّق بـ «إطلاق النار في المدارس». والضحايا هم في أغلب الأوقات من التلامذة والطلاب والمعلّمين. وفي أغلب الأوقات أيضا يقوم بها فاعلوها على «شاكلة» ما كانوا قد شاهدوه على شاشات التلفزيون أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي.
و«مدارس إطلاق النار» هو عنوان كتاب «ناتالي باتون»، الباحثة في إطار «مختبر الأبحاث التطبيقية في مجال العلوم الاجتماعية» بجامعة تولوز الثانية. وهي تناقش فيه قضية «العنف في زمن اليوتيوب»، كما يقول العنوان الفرعي للكتاب.
القسم الأساسي من تحليلات العمل يدورحول الإجابة على السؤال الجوهري التالي: بماذا يمكن لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها أن تكون مسؤولة عن هذه الظاهرة، ظاهرة العنف في المدارس؟.
إن «ناتالي باتون» تشير بداية إلى أن البعض لا يترددون في توجيه أصابع الاتهام لـ «الصور التي تبثّها ألعاب الفيديو والسينما ومختلف وسائل الإعلام الشائعة وفي مقدّمها التلفزيون» بينما يركّز آخرون على القول إن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق «حريّة حيازة الأسلحة النارية» حسب القوانين الأميركية النافذة اليوم.
تتم معالجة مسألة هذا النمط من العنف على خلفية الإقرار في المنطلق أن لوسائل الإعلام المعنيّة دورا «لا يمكن تجاهله» في انتشاره. وتحاول المؤلفة أن ترصد وتشرح الآليات التي تتبدّى بها عبر نوع من الدراسة الميدانية لدى ثلاث فئات معنيّة مباشرة بمثل هذا العنف.
الفئة الأولى تضم أولئك الذين يبرز اهتمامهم و«إعجابهم» بأعمال إطلاق النيران في المدارس بالتزامن مع اهتمام وسائل الإعلام بها. والفئة الثانية تخص اولئك الذين ينتقلون في ميلهم إلى العنف إلى الفعل. أمّا الفئة الثالثة التي توليها المؤلفة اهتمامها فهي لفاعلي العنف حيث ترصد المحطات الرئيسية في حياتهم قبل ممارستهم لإطلاق النار في المدارس.
والمادّة الرئيسية التي تعتمد عليها مؤلّفة الكتاب تتمثّل في محاولة «رصد» الآثار التي يتركها فاعلو العنف أو المعجبون بهم عبر تعليقاتهم وإبداء مواقفهم على شبكات الانترنت واليوتيوب والبلوغ وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي.
وتصل من خلال ذلك كلّه إلى القول بوجود نوع من «العلاقة الاجتماعية الرقميّة» التي تقوم حول مرتكبي العنف المدرسي والمعجبين بهم. ومثل هذه العلاقة تغدو في نظر المعنيين بها والمنضوين في خانتها نوعا من «العنف السياسي المشروع» في مواجهة المؤسسات التي يرون بها سببا في «تهميشهم» في المجتمع الذي يعيشون فيه.
هذه المواضيع تتم مناقشتها في الفصول الأربعة التي يتألّف منها الكتاب. يحمل الفصل الأوّل منها عنوان:«من أزمة العنف الشبابي في الولايات المتحدة الأميركية إلى ظاهرة تدويل مدارس إطلاق النيران». وتعالج المؤلفة في هذا الإطار مسألتين أساسيتين هما «آليات تكوّن نمط أميركي غير مألوف للعنف» و «وسائل الإعلام والعنف والعولمة».
الفصل الثاني موضوعه هو «تأثير وسائل الإعلام على العنف». ومحوران أساسيان هنا أيضا يتم التركيز عليهما يخص الأوّل المسار الذي تسلكه الوسائل المعنية «من التحريض على العنف إلى الاعتدال في معالجة مضامينه». ويخص الثاني «التقليد» من زاوية اعتباره «إستراتيجية في ممارسة التواصل لغايات تتعلّق بالهويّة».
وتكرّس المؤلفة الفصل الثالث لدراسة واقع «وسائل الإعلام بين البحث عن الموارد والقيم الديمقراطية». ويتم البحث بشكل أساسي هنا عن «سبل الدخول إلى الحلبة الإعلامية» و«آليات إنشاء شبكات التواصل الاجتماعي الرقميّة» و«نمط التفكير الذي يدفع نحو الانتقال للفعل».
الفصل الرابع والختامي في هذا الكتاب تبحث فيه المؤلفة الدوافع التي ترافق الانتقال من «الميل للعنف إلى أشكال الفشل في تحقيق (الأنا) الفردية،الهوية الفردية». تتم في هذا الفصل دراسة نماذج «القتلة» الذين ترى أن «ولوجهم سبيل العنف يقوم على خلفية البحث عن الاعتراف بهم كأفراد، ولو بعد موتهم». والسمة الأكثر شيوعا لهؤلاء القتلة تحددها المؤلفة بأنهم «في سن الشباب ومن الذكور ويعانون من صعوبات على الصعيد الدراسي»
وتتم دراسة نماذج«المعجبين بشيء من الحماس» الذين يبدون إلى هذه الدرجة أو تلك إعجابهم بأفعال العنف في المدارس بنوع من «البحث عن المشاركة في مرجعيات لهويتهم الفردية». هذا وتكرّس المؤلفة الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب للبحث في «تناقضات ومفارقات الدوافع والإيعازات المعاصرة للبحث عن الهويّة الفرديّة».
إن «ناتالي باتون» تخرج من دراستها التي استمرّت، كما تشير، ثلاث سنوات كاملة لظاهرة العنف المدرسي في مختلف المستويات بالولايات المتحدة الأميركية، بعدد من النتائج التي تدعو إلى النظر لهذه الظاهرة الخطيرة، وبالتالي لفهمها،على ضوء مدلولاتها الاجتماعية قبل كل شيء.
وفي مقدّمة هذه النتائج هو أنه في «إطار العالم الذهني والثقافي» الذي تروّج له مختلف وسائل صنع الرأي العام في ظل الثورة الرقمية وما أنتجته من وسائل التواصل المعممة، يغدو «إطلاق النيران في المدارس» نوعا من «التمرّد ضد المؤسسات» القائمة وأيضا نوعا من «الثأر» الذي يلجأ إليه أولئك الذين ينتابهم الإحساس بالهزيمة في «حلبة المنافسة الدراسية أثناء سن المراهقة».
وفي العموم، تحاول المؤلفة على مدى صفحات هذا الكتاب الإجابة على نفس الأسئلة التي تتردد بأشكال مختلفة وفي مختلف الأوساط المهتمّة بعد كلّ مرّة تتم فيها عمليات إطلاق نيران في مدارس أو جامعات أميركية. وهي أسئلة حول تفسير ظاهرة العنف في المدارس وانتشارها «المتعاظم أكثر فأكثر» على الصعيد العالمي.
Next Post