محمد سعد العيدروس
أرأيت إلى طريقين مفتوحين أمامك إلى غاية واحدة، ونظرت .. فإذا بقوة صدتك عن متابعة السير في أحدهما، إن المنطق سيدعوك، لا محالة، إلى سلوك الطريق الآخر الذي سيوصلك إلى الغاية ذاتها.
وإنها لكثيرة تلك الطرق المتعددة في الشريعة الإسلامية والمؤدية إلى غاية ربانية مطلوبة واحدة .. وإنما أعني بالطرق المتعددة الخلافات الاجتهادية المنبثقة عن نصوص شاء الله لحكمة باهرة أن تكون محتملة لأكثر من دلالة، لكي لا يجد الناس عنتاً، لدى سيرهم إلى الغايات التي أمرهم الله أن يتوجهوا إليها. فإن غُمَّ عليهم إليها سبيل مفتوح وجدوا إليها سبيلاً ثانية وربما ثالثة أيضاً.
وإنها لظاهرة هامة، تبرز عظيم رحمة الله بعباده، عندما يتوجهون إلى تحقيق المبادئ والقيم التي دعاهم إلى التحلّي بها. يفتح لهم إليها أكثر من سبيل، ويجعل أمامهم من الدلالات المحتملة في النصوص التي يخاطبهم بها، جواز مرور شرعي عن طريق أيّ تلك السبل يشاؤون.
والأمثلة العملية على هذه الظاهرة كثيرة، تفيض بها مصادر الشريعة الإسلامية. ولكنا لسنا هنا بصدد الخوض فيها وفتح ملف استقرائها والحديث عنها. وإنما الذي يعنينا في هذا المقام، أن نلتقط منها مسألة (النقاب) التي أفرزت في هذه الأيام مشكلة بين كثير من المسلمين في المجتمعات الغربية، وهددت بحدوث أزمة في بعض البلاد العربية.
ولقد كان من اليسير اتقاء هذه المشكلة، لو أن الذين تلقَّوْها فأثاروها قبلوا الفرار منها إلى الحل الذي وضعه المشرع جل جلاله بين أيديهم.
هل يجب على المرأة المسلمة أن تسدل على وجهها النقاب عند خروجها من الدار؟
شاء الحكيم جل جلاله أن يكون النص القرآني المتضمن حدود الحشمة المطلوبة من المرأة محتملاً لأكثر من دلالة واحدة. وذلك في قوله عز وجل: (ولا يبدين زينتهن إلى ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن)[النور: 30]
فمن علماء الشريعة، بدءاً من صحابة رسول الله، من فسّر هذا النص بأن الوجه والكفين هما الظاهر، فلا حرج في كشفهما، ومن ثم فلا حاجة إلى النقاب. وإليه ذهب كثير من الصحابة والتابعين. ومنهم من ذهب إلى أنهما مما يجب ستره وأن الظاهر ما ترتديه المرأة على جسدها مما يدخل في معنى الأناقة والزينة.
إذن فقد فتح الشارع جل جلاله إلى الحشمة التي يجب على المرأة أن تتحلّى بها، سبيلين اثنين إليها، إن أحرجها أحدهما سلكت إليها السبيل الآخر.
وإني لأؤكد بأن كلا السبيلين سواء من حيث المشروعية في ميزان الشرع وحكمه. ولكن ربما كان سبيل الالتزام بالنقاب أقرب إلى الاحتياط والورع ..
غير أن هذا التساوي وارد في حق المرأة التي لم يحمّلها الشارع وظيفة اجتماعية ذات فائدة دينية خاصة أو إنسانية عامة. ومن ثم فهي بسبيل من أن تختار لنفسها أي الطريقين تشاء وربما كان طريق الورع والاحتياط أولى بها.
أمّا امرأةٌ حمّلها الله عز وجل وظيفة التدريس مثلاً، لاسيما تدريس الدين أو ما هو في حكمه، وعلمت أن الله يجري الخير على يدها من خلال هذا الذي أقامها الله فيه، ونظرت .. فعلمت أن إصرارها على النقاب سيفصلها عن تلك الوظيفة، ومن ثم فسينقطع الخير الذي كان يصل منها إلى تلك اللائي تتعهدهن بالتربية والتعليم أو التثقيف عموماً، فإن سلّم الأولويات المرسوم في دين الله عز وجل، والمرتّبة درجاته فيما يسمى المصالح الضرورية، ثم الحاجيّة، ثم التحسينيّة، يدعوها إلى أن تؤثر فائدة وظيفتها على فائدة التمسك بنقابها عندما يقع، لأمر ما، بينهما التناقض. ومن ثم فإن نداء المشرع جل جلاله يهيب بها أن تتحول في طريقها للتحلي بالحشمة المطلوبة، إلى الطريق الثاني الموصل هو الآخر إليها.
إن الورع بالنسبة إليها وإلى أمثالها إنما يتمثل في محافظتها على الخير الذي يسري منها إلى الآخرين عن طريق الوظيفة التي أقامها الله فيها، لا في الانقطاع عن الرفد الذي سخرها الله له.
وأحبّ أن أذكّر هنا بأن حظوظ النفس كثيراً ما تتدخل في مثل هذه الحالات، فتحجب أصحابها عن رؤية ما هو أرضى لله عز وجل، وتزجّهم في قدر كبير من المزج والالتباس.
أجل .. فربما استقر في نفوس الكثيرات من النساء المنقبات أن النقاب أصبح جزءاً من شخصية الواحدة منهن. فإذا حُمِلَتْ على خلعه وجدت في ذلك خدشاً لشخصيتها وهضماً لمكانتها. ومن ثم فهي تصرّ على مقاومة هذا الذي يُطلب منها وتحرص على التمسك بنقابها أياً كانت الحال، تظهر بذلك الحرص على حكم الله والغيرة على شريعته. ولكنها تعلم – إن هي تأملت في حوافزها الكامنة في أعماق نفسها – أنها إنما تنتصر بذلك لشخصيتها.
* * *
ربما قيل: إن ما يجري اليوم في بعض مجتمعاتنا العربية من محاربة النقاب، إنما هو مكايدة للشعور الديني لدى المتنقبات، وتسلق إلى حيث يتاح الهجوم بعد ذلك على الحجاب.
وأقول: قد يكون هذا التصور صحيحاً. ولكن الحلّ الذي يدعو إليه الشارع الحكيم هو ما قد ذكرت، من التحول عن طريق النقاب إلى طريق الحجاب الموصل أيضاً إلى مقصد الحشمة والتحلي بالأخلاق..
وربما قيل: بل إن النقاب غدا الستر الذي يختبئ تحته الناشطون سعياً لاستثارة الفتن وتفجير الأزمات وقتل البرآء وتصادم السياسات، تسخّر لذلك النساء المنقبات. وأقول: ما أقرب أن يكون هذا الكلام الثاني صحيحاً أيضاً. غير أن الحلّ الذي يدعو إليه الشارع جل جلاله هو ما قد ذكرت أيضاً، أجل.. لا بدّ عندئذ من استلاب هذه الذريعة من أيدي الرجال المتنقبين، قصداً إلى اختلاق أسباب الفتن والهرج والمرج. وسدّ الذرائع أصل كبير لا ينكر في الإسلام.
وربما قيل: بل إن فيمن يكيد للإسلام وضوابطه الأخلاقية، من يدفعون رجالاً إلى أن يتنقبوا ثم ينهضوا ببعض الأنشطة المريبة، فيلفتوا الأنظار إليهم، فيُضبَطُوا بالجرم المباشر، فيتخذوا من ذلك ذريعة إلى ملاحقة المتنقبات والقضاء على النقاب. وأقول: إن هذا الاحتمال الآخر ليس ببعيد، وللفكر أن يسرح في تصور كل الاحتمالات. غير أن الحل الذي يوصي به الشارع لكل فتاة تنهض بمسؤولية دينية مشروعة سليمة، وتعلم أن الله يجري على يديها الخير بما تنهض به، وأنها تساهم بذلك في تحقيق وعي إسلامي صاف عن الشوائب يحصِّن المجتمع ضد كل غلو وإفراط وتفريط، أقول: الحلّ الذي يوصيها به الشارع آنذاك هو التحول عن طريق النقاب إلى طريق الحجاب.
ولست أشك في أن أخلاقيات الإسلام وآدابه عموماً، تعاني في بعض بلادنا العربية من امتهان ومكايدة لا تعاني من مثلها أو قريب منها في الدول والمجتمعات الغربية. ودلائل ذلك واضحة مكشوفة، ولسنا بحاجة إلى ذكر مواقف وحوادث تشهد بذلك..
ولكن فلنعلم أن على كل مسلم ومسلمة يعتزان بما شرفهما الله من الالتزام بآداب الإسلام أن يعلما أن أول ما يتطلبه الإسلام منهما في هذه الحال، وأمام هذه المثيرات والمهيجات، هو ضبط النفس بضوابط العقل، وإخضاع العقل لرشد الدين وأخلاقيات الإسلام.
إن الالتزام الصامت بهدي الإسلام متمثلاً بالانضباط بسلّم الأولويات أمام تدرج المصالح والمقاصد، على النحو الذي أوضحناه، وتهدئة العواطف والخواطر في ظل قول الله تعالى: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) واستلاب الذرائع ممن يريد أن يتصيدها للشر، دون جلبة ولا ضوضاء هو النهج الأمثل الذي سار عليه رسول الله ثم تركنا عليه.
وقديماً تجلّت الأخلاق العربية، قبل أن يتوجها الإسلام بتعاليمه في مثل قول الشاعر العربي:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمضيتُ ثمُّة قلتُ لا يعنيني.
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا