عن الثقافة الزائفة : قراءة أركيولوجية

 

د. عرفات الرميمة
المنهجية الاركولوجية والمنهجية الجينالوجية هما منهج واحد في نهاية المطاف . ويُعتبر الفيلسوف الألماني نتشه ( 1844 – 1900م ) هو المؤسس للمنهج الجينالوجي عندما استخدمه للمرة الاولى في كتابه ( جينالوجيا الأخلاق ) وتأثر به الفيلسوف الفرنسي الذائع الصيت ميشال فوكو ( 1926 – 1984م ) وأستخدمه في كتابه اركولوجيا المعرفة – ترجمه البعض بعنوان حفريات المعرفة – و تعني كلمه جينالوجيا أو اركولوجيا : الحفر بعيدا في الأعماق – وهو نفس المنهج الجيولوجي المستخدم في دراسة طبقات الارض – للوصول الى جذور الشي المدروس ، وتعني حرفياً : الكشف عن نسب شخص ما والعودة في الزمن الى الوراء لمعرفة آبائه وأجداده حتى أخر نقطة ممكنة . أما معناها المجازي فيعني الكشف عن أصل الأخلاق والعادات والتقاليد التي تفرض نفسها وكأنها مقدسة بحكم العادة والألفة والبداهة . وعند استخدامنا للمنهج الاركيولوجي نكتشف أنها ليست بديهية الى الحد الذي نتصوره وعندما يكشف المؤرخ أو الفيلسوف عن أصل الأخلاق او أصول بعض الاعتقادات أو بعض العادات والأعراف في المجتمع يندهش الناس ويصدمون في الأعماق – خصوصا من يقدسونها – ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة للتحرر منها . وعند استخدامنا للمنهج الاركيولوجي في تتبع مفهوم الثقافة نلاحظ أن هناك من يعتبر أن الثقافة بحد ذاتها خداع ودجل وحديث رخيص للضعفاء يغطون بها نقاط ضعفهم وقلة حيلتهم – وهوانهم على أنفسهم ولدى الآخرين – وهي وسيلة ترقيع تستر بها الشعوب عوراتها ومكياج رخيص لتجميل قبحها ووجبة سريعة لاسكات جوعها . نجد هذا المعنى الفاضح لحقيقة الثقافة لدى العديد من المفكرين الذين سبروا غورها ونفذوا الى عمقها ولبها ولم يقفوا عند السطوح والقشور كما فعل بعض أدعيائها ومدعيها . فقد صرّح جون بريت – عضو البرلمان الامريكي في القرن التاسع عشر – قائلاً : إن الناس حين يتحدثون عما يسمونه ثقافة فإنهم يعنون ثرثرة بلغتين ميتتين هما الإغريقية واللاتينية . و كتب المؤلف الألماني هانز جوست في مسرحيته المسماة (شلاتر) عن حقيقة الثقافة -كمفهوم متعالي واستعراضي ومستفز – على لسان أحد ابطال المسرحية قائلا : حين اسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي .
وبنفس المعنى كتب الطبيب العقلي فرانز فانون في كتابه الشهير معذبو الارض قائلاً : حين يسمع المواطن الأفريقي ابن البلد حديثاً عن الثقافة الغربية فإنه يشهر سكينه أو على الأقل يتأكد أنها لا تزال في متناول يده . ومعنى ذلك أن الثقافة ليست نعمة وميزة ومدعاة للتفاخر على الدوام وليست غاية بحد ذاتها ، بل هي نقمة ومرض ووسيلة رخيصة للظهور متى تحولت الى أداة تمايز وقمع للآخر المخالف – مثلها مثل المعرفة التي تتحول الى قوة نقهر بها الآخر ونستعلي عليه كما قال ميشال فوكو في كتابه حفريات المعرفة – وسلاحاً لإخضاعه وتحجيمه واستلابه ، كل ذلك يستدعي ممن يسمعها أن يكون مستعدا لإشهار مسدسه – أو سكينه على الأقل – دفاعا عن نفسه ضد من يحاول أن يستعلي عليه ويحل دمه باسم الثقافة . ومن وجهة نظري أن أول مثقف على وجه الأرض – بالمعنى الحقيقي لمفهوم الثقافة الذي أشرنا اليه – هو ابليس الذي أخذته العزة بالثقافة لانه حسب اعتقادي مثقف يعلم كل شيء ولذلك هو أفضل ممن سواه ، فلم ينفذ أمر الله ولم يرضخ للواقع ، فقال متباهيا: (أنا خير منه ) مع أن الله أثبت له وللملائكة أن آدم أكثر علما وثقافة منهم – ولا يزال إبليس حتى اللحظة مطرودا من رحمة الله بسبب ثقافته الزائفة وغروره الأحمق – وبنفس المعنى كانت اليهود أول أمة أشهرت سلاح الثقافة – وجعلتها أداة فخر وتمايز واستعلاء لتحجيم الآخرين ومحاولة السيطرة عليهم – فقد كانوا يتباهون بأنهم اصحاب كتاب وعلم وثقافة ،أما العرب فهم أميون لا كتاب لهم وكانوا يتسائلون بتعجب واستنكار : كيف لأمي من العرب أن ينزل عليه الوحي ؟ وكيف يُريد مِنْ اليهود وهم (أبناء الله وأحبائه )- كما زعموا زوراً وبهتاناً – أن يتبعوا ذلك الأمي الذي – تخرج من الكهوف ولم يتخرج من الجامعة بلغة اليوم – و لا علم لدية ولا ثقافة ! سارت قافلة الإسلام وظل اليهود – ولا يزالون – ينبحون عليها بثقافتهم التي بثت الكراهية للمخالفين لهم وزرعت الفتن والأحقاد واشعلت الحروب التي لم تخمد جمر نيرانها حتى الآن . ولقد اعتقد الزعيم النازي هتلر أن الشعب الألماني أكثر علما وثقافة ورقيا من جميع شعوب أوروبا وبالتالي هم الجنس السامي والأرقى الذي يجب ان تخضع له جميع الشعوب الأوربية الأقل منه ثقافة وعلما ، وبسبب التعالي الثقافي والغرور العلمي نشبت الحرب العالمية الثانية وقتل بسببها الملايين . كانت تلك المقدمة ضرورية لمعرفة حقيقة الثقافة – كوسيلة لستر العورات والتباهي على الآخرين – إن الثقافة التي تقّسم الناس الى متعلم وجاهل والى مدني وقبيلي هي ثقافة ابليس وثقافة اليهود ونازية هتلر . و تلك هي الثقافة الزائفة والملعونة لأنها تخرب الأوطان ولا تبنيها تستكبر وتستعلي على المخالفين من أبناء الوطن الواحد ولا تتواضع لهم ، تفرَق ولا تجمع بينهم ، تستغني بالوهم عن الواقع ، تتقارب مع الأعداء والأباعد وتستبعد الأخوة والأصدقاء والأقارب.
أما الثقافة الحقة فهي التي تبني العقول والنفوس ويظهر أثرها على سلوك الفرد والمجتمع كواقعِ معاش وأسلوب حياة ، تقبل الاختلاف والتنوع وتتعامل مع الآخر كمرآة ترى فيه عيوب ذاتها .
الثقافة الحقة هي التي تمكث في الارض وتنفع الناس – باعتبارها ما يبقى بعد ضياع كل شي -أما الثقافة الزائفة فهي زبدُ تذهب جفاء وترسب في أي اختبار حياتي ، فهي مثل الخمر مضارها أكثر من منافعها .
كانت تلك هي حقيقة الثقافة – حال وجودها فعلا – أما التباهي بالثقافة التي لا وجود لها في الواقع
فهي مكياج رخيص للبحث عن جمال مفقود يستر قبح الوجوه المشوهه لعدة ساعات فقط وتظهر بعدها عورة تلك الوجوه مع مرور الوقت .

قد يعجبك ايضا