اغتيال شرف الدين انقلاب على مشروع الدولة المدنية

في بيان عزاء للشهيد ابراهيم الحمدي من احدى الدول العربية جاءت عبارة في البيان تصف اغتيال الحمدي (يبدو ان اليمنيين يضيقون بالاذكياء ) ولا تزال تلك النتيجة التي توصل اليها من كتب البيان حقيقة تتعزز كل يوم بسقوط ذكي من اذكياء اليمنيين نواري جثمانه الثرى مغدوراً من قبل خفافيش الظلام وكأن القتلة لا دور لهم إلا الخلاص من تلك الطليعة المثقفة ومن تلك الطليعة الشهيد البرفسور ورجل القانون الدكتور احمد شرف الدين عضو مؤتمر الحوار الوطني الذي يصادف الـ 21من يناير الذكرى الثانية لاغتيالة في جريمة مثلت في طريقتها وفي توقيتها وفي اسلوب ارتكابها مستوى الانحطاط القيمي الذريع الذي وصل اليه من ارتكبها ومن يقف خلفها وفي توقيت بالغ الحساسية وفي مفترق طرق بين الذهاب باليمن الى شاطئ الامان والعودة الى الصراع العقيم الذي لم يحصد منه اليمنيون إلا الخراب والدمار.

وهي الجريمة التي لم تكن تستهدف حياة الشهيد بقدر استهدافها للثقافة والقناعات والمبادئ والافكار الحداثية التي ظل الشهيد وفيا لها مناضلا في سبيلها مقدما كل ما يملك من خبرات متراكمة من اجلها وفي سبيل تحولها الى اسس لبناء دولة بديلة للدولة القائمة والتي ظلت مخطوفة بيد مراكز النفوذ والسيطرة التي افرغتها من مهامها الاساسية وعملت على انتاج طابور طويل من النفعيين والانتهازيين.
الشهيد رفض المشاركة في حفلات تقديس الضجيج
ولقد كان الشهيد الدكتور احمد شرف الدين يستطيع ان يشارك في حفلات تقديس الضجيج التي شارك فيها كثير من السياسيين والاكاديميين مع النظام السابق من اجل مصالحه الخاصة ويمكن لة ان يحقق الكثير منها حيث سعى النظام الحاكم وفي كثير من المراحل الى البحث عن وجوه جميلة ومقبولة ليخفي وجهه القبيح لكنة رفض ان يكون في المكان الذي يتعارض مع قناعاته ومبادئه ووجد في قاعات الدرس في الجامعة المكان الذي يشاهد فيها احلامه بوجود دولة مدنية عادلة يحتكم اليها الجميع بعيدا عن تأثيرات القبيلة ومراكز النفوذ العسكري والاقتصادي تتخلق في اذهان الطلاب و في عقولهم كمسلمات لا مناص منها من اجل خلاص اليمنيين مع كل دفعة جديدة تغادر الجامعة الى ميدان العمل قضاة ومحامين ووكلاء نيابات وناشطين حقوقيين وصحفيين والكثير الكثير من كوادر الدولة التي تخرجت على يد الراحل استاذ القانون الشهيد الدكتور احمد شرف الدين.
وعندما نقول ان الشهيد لم يشارك في حفلات تقديس الضجيج التي تشجع عليها الانظمة الاستبدادية من اجل بقائها ولو كان على حساب شعب منهك ندرك ان اصحاب الافكار الكبيرة والنظرة الثاقبة يتحلون بصفات الزهد والترفع عن المصالح الشخصية الضيقة والنظر الى المصلحة العامة والتي كانت مصلحة الشعب اليمني وحقه في العيش الكريم التي يتوفر فيها مستوى مناسب من الخدمات و الاستقرار المعيشي مقابل الجهد الكبير الذي يبذله الشعب في ميادين العمل والانتاج ولكن للاسف كل تلك الجهود تذهب في النهاية الى شلة من الفاسدين .
شرف الدين وخطورة تبني الدولة للخطاب الديني
لقد خلص الشهيد الدكتور احمد شرف الدين من خلال تجربته الرائدة سواء في دراسة القانون او تدريسه او من خلال متابعته للاحداث التي عصفت باليمن شمالا وجنوبا وما مثله تحقيق الوحدة اليمنية من انجاز تاريخي في حياة اليمنيين والنتائج الوخيمة لحرب صيف 94م وحروب صعدة العبثية والاوضاع التي انتجتها قيام الثورة الشبابية السلمية التي ادت الى سقوط النظام الى تشخيص دقيق لما يعانيه الكيان اليمني وحاجته الماسة والعاجلة لإصلاح النظام السياسي من خلال اصلاح اسس بناء الدولة وتحديدا حاجة اليمنيين الى دولة لا دينية فقد قال في احدى محاضراته ابان الثورة الشبابية السلمية واحتفظ بها مسجلة :(نريد دولة مدنية دولة لا دينية الدين للشعب والدولة كشخصية اعتبارية لا دين لها اي ان الدولة لا تتبنى الخطاب الديني الدين للشعب بمختلف مذاهبه والدولة لا تتبنى الخطاب الديني وعندما نقول في الدستور ان الشريعة الاسلامية هي مصدر جميع التشريعات فهذا يعني ان الدولة دولة دينية ) وهو يريد ان يقول ان جل ما عاناه اليمنيون في الماضي وما يعانوه في الحاضر وما سيعانونه في المستقبل إذا لم يشخصوا الخلل بسبب تبني الخطاب الديني وجعل الدولة ككيان يدير ويبني ويخطط وينفذ مقيداً بالدين وهذا انتج صراعات دائمة على اساس ديني وفي ما يتعلق بضرب مراكز النفوذ وضع الشهيد رؤيته من خلال النظام الاتحادي الذي سيقضي على سيطرة القبائل على القرار السياسي، لقد كانت بحق رؤية ثاقبة سبقت الكثير من الاحزاب حتى الاحزاب التي تتشدق بالحاجة للدولة المدنية الحديثة وتؤكد على ذلك في ادبياتها لقد قدم الشهيد مشروع انقاذ يمثل خلاصة الخلاصة لليمنيين من اجل الخلاص من براثن الدولة الدينية وخطابها الديني الذي للاسف تحول الى سيف مسلط على رقاب الجميع ولم ينتج إلا دورات جديدة من الصراع المغلف بطابع ديني وهو كما يقول في محاضرته حرص عليها من حلال دوره في فريق بناء الدولة على ان تكون اسساً تبنى عليها الدولة الاتحادية وشاركه فيها الكثير من المخلصين من اليمنيين .
اننا امام رؤية مستوعبة لكل الاحداث وتأثيراتها، رؤية تمثل حلماً لليمنيين جميعا في مستقبل مشرق في ظل وطن للجميع تحمى فيه الحقوق والحريات.
الطليعة المثقفة في مرمى رصاص الغدر والخيانة
لقد كان الشهيد احمد شرف الدين وهو يتحدث ويكتب ويقدم النصيحة ويفكر كيف يصاغ عقد اجتماعي جديد لليمنيين لا يعلم ان اكفانه تنسج في الغيب وان سلسلة من اعداء النور ومن ظلوا يعيقون الوصول الى الدولة العادلة والوطنية سيتآمرون على تلك الافكار المشرقة في جريمة لا تزال تدلل على ان رياح ثورات اليمنيين تفرغ من محتواها وان في كل منعطف نضالي يفقدون واحدا من فرسان الدولة العادلة وان مشوار اليمنيين نحوها لا زال شاقا وطويلا طالما ظلت ارواح طليعتها المثقفة والواعية في مرمى رصاص الغدر والخيانة التي يطلقها اعداء الحياة، اعداء التعايش، اعداء الافكار الواعدة والتي تحيل اليباب الى اخضرار دائم.
تراث الراحل الفكري حق للاجيال القادمة:
نعم يسقط الحالمون بدولة الحق والعدل ويبتسم القتلة وهم يشاهدون نجماً من سمانا يغادر مضرجا بدمائه، لكن القضية التي سقطوا لاجلها تبقى في ضمير الانقياء من ابناء هذا الوطن من صعدة وحتى المهرة.
وهنا نطالب بضرورة ألا يلحق فقدان فارس من فرسان الدولة المدنية الحديثة واعمدتها غياب او بمعنى اصح تغييب للتراث الفكري الذي تركه ذلك التراث الفكري الخصب هو حق للاجيال القادمة وهو كذلك برنامج عمل للقوى الحية في المجتمع فرحيل اصحابها لا يعني موت الفكرة بل ولادتها طالما كانت مهمة وضرورية لحماية النسيج الوطني من التمزق وفي قناعتي الخاصة ان من يرمون بالافكار التي تمثل حلاً لليمنيين مع وجودها لا يختلفون كثيرا عن القتلة من صادروا صوت العقل بالرصاصة.
ان ذكرى الرحيل للشهيد احمد شرف الدين ليست مهرجاناً للطم الخدود بقدر كونها وقفة جادة مع تجربة رائدة وفريدة يجب ان نأخذ منها العبر والدروس حتى لا يقع اليمنيون في نفس الانتكاسات التي قادنا اليها عدم ترك المجال للافكار الناضجة لتجد الطريق الآمن وتصنع خلاص اليمنيين وهي ايضا مادة خصبة لشحذ همم وعزيمة اليمنيين من اجل الانتصار لمشروع الدولة الوطنية والعادلة، مشروع الحياة لا مشروع الموت، مشروع تذوب فيه كل تركة الماضي وتعالج فيه كل الاخطاء التي ارتكبت من الجميع، مشروع الحداثة والعلم والمعرفة والتعدد والقبول بالآخر.
واقول هنا لمن خطط ونفذ ووقف خلف جريمة اغتيال الشهيد الدكتور احمد شرف الدين ان الهروب من العدالة الدنيوية يمكن ان يحدث لكنه طريق لا يوصل إلا للعدالة السماوية وان من يفلت من محاكم القانون لن يفلت من محاكم التاريخ.
وان اليمنيين سيحتاجون وقتا طويلا لتعويض خسارة رحيل فارس مثل احمد شرف الدين والذي يثبت الواقع المعاش ان وحوده كان ضامناً للوصول الى الدولة المدنية الحديثة والوطنية والعادلة مع كثير من الحالمين بغد اجمل لليمن ارضا وانسانا .

قد يعجبك ايضا