باتريك كوكبيرن*
في نهاية العام الماضي, نشرت وكالة الاستخبارات الألمانية (BND) مذكرة لا تزيد عن صفحة ونصف لافتة للانتباه, تقول إن العربية السعودية تبنت سياسة متهورة للتدخل في الدول الأخرى. وصفت فيها وزير الدفاع السعودي ونائب ولي العهد/محمد بن سلمان—الابن القوي المفضل للملك المُسن سلمان, الذي يعاني من ضعف في القدرة العقلية—على أنه مقامر سياسي يزعزع استقرار العالم من خلال حروب الوكالة في اليمن وسوريا.
في العادة وكالات التجسس لا ترسل الى الصحافة مثل هذه الوثائق المثيرة سياسيا والناقدة لقيادة حليف مقرب وقوى مثل العربية السعودية. إن تقييم الوضع المقلق من جانب الـ (BND) اقتضى أن الوثيقة يجب أن تكون معروفة للناس وتنشر على نطاق واسع . طبعا تم فورا توبيخ وكالة الاستخبارات من جانب وزارة الخارجية الألمانية عقب الاحتجاجات السعودية الرسمية, لكن تحذير الـ (BND) كان دلالة على القلق المتزايد من أن العربية السعودية أصبحت عنصرا متهورا. قال وزير سابق من الشرق الأوسط, اراد ان لا يذكر اسمه” في الماضي حاول السعوديون بشكل عام ان يحافظوا على كل الخيارات مفتوحة وكانوا محترسين, حتى عندما كانوا يحاولون التخلص من حكومة لا يحبونها.
من المدهش أن نشر تقرير الـ ((BND لم يكن له سوى أثر محدود خارج المانيا في تلك اللحظة. ربما كان السبب ان النشر تم في 2ديسمبر, أي بعد ثلاثة أسابيع من مذبحة باريس التي وقعت في 13 نوفمبر, عندما كانت الحكومات ووسائل الإعلام في العالم لا تزال مشغولة بالتهديد الذي مثله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وكيف يمكن أن يتم مواجهته بشكل ناجح. وفي بريطانيا كان الجدال دائر حول مشاركة القوات الجوية الملكية في الحرب الجوية ضد داعش في سوريا, وبعدها فورا كان هناك عملية قتل جماعي قام بها رجل وزوجته من المؤيدين لداعش, في بيرناردينو, كاليفورنيا.
كان الإعدام لرجل الدين الشيعي الشيخ نمر النمر و46 شخصا آخرين—معظمهم تقريبا جهاديين أو معارضين سنة—في 2يناير, هو الذي جعل, للمرة الأولى تقريبا, الحكومات تنتبه الى المدى الذي أصبحت فيه العربية السعودية تمثل تهديدا للوضع القائم. يبدو أن القيادة السعودية الحالية تتعمد بشكل مقصود استفزاز إيران في محاولة لتولي قيادة العالمين السني و العربي, وفي نفس الوقت يعزز الأمير محمد بن سلمان نفوذه الداخلي من خلال ارضاء النزعة القومية الطائفية السنية. ما لا شك فيه هو ان السياسة السعودية تشهد تحولا منذ تولي الملك سلمان السلطة في يناير الماضي بعد موت الملك عبدالله.
وكالة الـ (BND) تضع قائمة بالمناطق التي تتبنى فيها العربية السعودية سياسية أكثر عدوانية وميلا للحرب. في سوريا, في بداية عام 2015م دعمت القيادة السعودية تكوين جيش الفتح, المكون في الأساس من فرع تنظيم القاعدة وجبهة النصرة وأحرار الشام المتماثل ايدولوجيا مع تلك الجماعات الجهادية, ويمكن هذا التجمع من تحقيق عدد من الانتصارات ضد الجيش السوري في محافظة ادلب. وفي اليمن, بدأت العربية السعودية حربا جوية موجهة ضد حركة الشعب والجيش اليمني, ولا يوجد حتى الآن أي مؤشر على انتهاء الحرب الجارية. ومن بين الذين استفادوا من الصراع الدائر في اليمن تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية, الذي تسعى الولايات المتحدة لإضاعفه منذ سنوات بواسطة الضربات الجوية للطائرات دون طيار, لكن بلا فائدة.
لم تنجح و لا من المحتمل أن تنجح أي من هذه المغامرات الخارجية التي قام بها الأمير محمد, لكنها حققت له شعبية وتأييد اًفي الداخل. وحذرت الـ (BND) من أن تركيز هذه السلطة في يديه ينطوي على خطر يكمن في سعيه لتوطيد نفسه لخلافة اباه خلال حياته, ربما يتجاوز صلاحياته.
مثل هذا التجاوز يزداد سوء اًكل يوم. في كل مرحلة من المواجهة مع إيران خلال الأسبوع الماضي رفعت الرياض مستوى المخاطر. الاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد ربما لم تكن متوقعة لكن ما كان يجب على السعوديين أن يقطعوا العلاقات الدبلوماسية. ثم كانت هناك غارة جوية يدعي الإيرانيون انها ألحقت ضررا بسفارتهم في العاصمة اليمنية صنعاء. لم يكن شيء من هذا مفاجئا, فالعلاقات السعودية الإيرانية كانت تشهد فتور اًخصوصا منذ أن لقي 400 حاج إيراني حتفهم في تدافع جماعي في مكة العام الماضي.
لكن حتى في الأيام القليلة الماضية, كانت هناك دلالات أن القيادة السعودية تزيد بشكل متعمد درجة الحرارة السياسية من خلال تقديم أربعة مواطنين إيرانيين للمحاكمة, واحد منهم متهم بالتجسس وثلاثة بالإرهاب. كان الأربعة في السجن منذ عام 2013 أو 2014 لذلك لم يكن هناك سبب لمحاكمتهم الآن, سوى خطوة إضافية أخرى لإزعاج إيران.
تسعى العربية السعودية للقيام بشيء من الهجوم المضاد من اجل طمأنة العالم انها لن تذهب الى حرب ضد ايران. ففي مقابلة مع مجلة الإكنوميست قال الامير محمد:” الحرب بين العربية السعودية وإيران هي البداية لكارثة كبيرة في المنطقة, وستنعكس بشكل قوي جدا على بقية العالم. و بالتأكيد, إننا لن نسمح بأي شيء مثل هذا.”
المقابلة المذكورة من المحتمل أن القصد منها كان أن تطمئن العالم الخارجي, لكن بدلا من ذلك فهي تعطي انطباعا عن افتقاد الخبرة والغطرسة. هناك أيضا شعور بأن الامير محمد مقامر غير مُجرب من المتوقع ان يضاعف قماره عندما تخسر رهاناته. وهذا تماما عكس ما كان عليه الحكام السعوديون سابقا, والذين فضلوا دائما ان يراهنوا على كل الأحصنة.
السبب الأساسي وراء تصرف العربية السعودية بشكل أحادي هو خيبة أملها لأن الولايات المتحدة توصلت الى اتفاق مع إيران حول برنامج طهران النووي. ومرة أخرى يبدو هذا الموقف ساذجا : فالتحالف القوي مع الولايات المتحدة هو السبب الأساسي الذي مكًن الملكية السعودية من مواجهة الخصوم القوميين والاشتراكيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي. بدون مال السعوديين والتحالف القوي مع الولايات المتحدة, كان دائما يشكك الزعماء في الشرق الأوسط بكفاءة الدولة السعودية. وهذا الأمر صحيح بالنسبة لكل الدول المنتجة للنفط بكميات كبيرة, بغض النظر عن إطارها الايدولوجي. تبرهن التجربة أن الثروة النفطية الهائلة تشجع الدكتاتورية, سواء في العربية السعودية, العراق, ليبيا أو الكويت, لكنها تنتج أيضا دولا هي أضعف مما تبدو عليه ظاهريا, فهي دول ذات حكومات غير فاعلة وجيوش عاجزة.
الناحية الثانية التي لا تطرح فيها مقابلة الأمير محمد شيئا سوى العناء للأسرة الملكية السعودية, هي عملية الإصلاح الاقتصادي. فهو يقترح التقشف وإصلاحات السوق في المملكة, لكن في سياق اوتوقراطيات الشرق الأوسط وخصوصا دول النفط هذا الأمر ينتهك العقد الاجتماعي الضمني مع عامة المواطنين. فالناس ربما لا يتمتعون بالحرية السياسية, لكنهم يحصلون على جزء من عائدات النفط من خلال وظائف الحكومة, ودعم الوقود, الغذاء, السكن ومنافع أخرى. تبني سياسة الخصخصة والاعتماد على السوق, في غياب المساءلة أو نظام قانوني عادل, يعني ترخيصاً للنهب من قبل أصحاب النفوذ السياسي.
هذا كان أحدى الأسباب التي أدت الى الانتفاضة في عام 2011 م ضد بشار الأسد في سوريا ومعمر القذافي في ليبيا. الإصلاحات المزعومة التي تقرض آلية الدعم المالي غير المنظم — لكنها فعالة—تؤدي الى مصلحة النخبة فقط.
دول النفط يكاد يكون من المستحيل أن تنفذ عملية إصلاح وعادة ليس من الحكمة ان تحاول ذلك. مثل هذه الدول يجب أيضا ان تتفادى الحرب إذا كانت تريد أن تبقى قائمة, وذلك لأن الناس ربما لا يثورون ضد حكامهم لكنهم بالتأكيد ليسوا مستعدين أن يموتوا من أجلهم.
* صحفي ايرلندي كان مراسلا لصحيفة الفاينناشل تايميز البريطانية في الشرق أوسط منذ 1979, والآن مراسل لصحيفة الاندبندنت البريطانية.