لحظة يا زمن…تعبير
محمد المساح
في ركن ظليل في مدخل شارع فرعي , رمى بطربال صغيرتان على الأرض الترابية وتربع عليه جالسا .
استوت بجانبه شنطة وأخرج أدوات شغله، خيط ومخرز , وسيور جلدية وبلا ستيكية وقصعتان صغيرتان فتحهما .. وبرقت لمعة المسامير فيهما .
انهمك في عمله .. يضع بداية المخرز الحاد على طرف صندل أسود ثم يرفع خطاف المخرز ويلقمه الخيط داخلا وخارجا من الثقوب . في وضعيته تلك , وفي ذلك المكان واستغراقه في عمله .تلتفت نحوه عيون المارة وعابري الشارع .. ولكنها تمر عليه .. وكأنها لا تراه ..أو كأنه غير موجود أصلا , ما عدا بالطبع استثناءات قليلة تقترب منه تطلب تصليح حذاء , ترفيع ضرب مسمار لصندل اختلعت أطرافه , بعضها تتبادل معه بعض الكلام , وتترك حاجياتها وتذهب وتعده بالعودة لأخذها بعد أن يكمل تصليحها.
لا شيء مثير إذا .. مشهد روتيني عادي .. ولا شيء خارق هنالك .. قبل أن يصل إليه صوت المزمار وإيقاع الدف المدور , كان الصمت والتركيز منصبين في الشغل.
حين وصل إليه الاثنان الرجل نافخاً بمزماره ذي القصبتين والمرأة توقع بأصابعها إيقاعاً يتوازى مع صوت المزمار .
فجأة رمى بالمخرز جانبا , وهب واقفا واخرج من ثنية الفوطة الملتفة على خصره ورقة الخمسين ومد بها إلى الرجل .
وعلى صوت المزمار , ووقع الدف ابتدأ رقصته .وحيداً.. والاثنان الرجل والمرأة ..والمزمار والدف .
أعطى لجسمه حرية التوافق وفي حركات بسيطة مع صوت المزمار وإيقاع الدف .
من هنا وهناك التف العابرون وشكلوا حولهم شبه دائرة .
كانت ابتسامة سعيدة ترتسم على وجهة ..وكأن سحابة تحمله على بساطها المسحور , والعيون حوله ما بين استغراب وعجب .. ودهشة مكبوتة وتساؤل لم يتحدد لأصحابها.
أما هو فقد انتعشت ملامح الوجه وابتسامه خفيفة .. تبدو بصفاء ودها لحبيب بعيد مقره قلبه الطافح حينها بنشوة إيقاع جسمه .
كانت تتكور وجنتا نافخ المزمار .. والأصابع تغازل الثقوب وينساب اللحن , والمرأة توقع على سطح الدف إيقاعا .. دورهما الاثنان كان يبدو عليه تأدية شيء عادي ولا يظهر عليهما أي استغراق أو انسجام مثماثلين ..مع نشوته الداخلية البادية واضحة في معالم الوجه .
بلل الوجه العرق , والابتسامة ظلت سابحة في نشوة ونداء لشخص بعيد يعرفه هو لوحده , وانطلق الجسم ليعزز ذلك الانتشاء البديع .