هجمات باريس وعقدة الخواجة..
أشعر أن ضحايا العمليات الإرهابية للقاعدة وداعش في عموم المنطقة العربية والإسلامية- الفضاء الجيوسياسي الذي تتركز فيه 99%من النشاط الإرهابي للقاعدة والعصائب المتناسلة عنها- سواء في اليمن أو سوريا والعراق ولبنان وليبيا ومصر ..الخ أشعر أنهم باتوا مساء الجمعة وهم يغبطون ضحايا هجمات باريس الإجرامية على التعاطف العالمي الواسع ويودون لو أنهم حصلوا على عشر معشار أعشار ما حصل عليه ضحايا هجمات باريس ولسان حالهم يخاطب ضحايا باريس: كم أنتم محظوظون ومتميزون حتى وأنتم تقضون في ظروف مشابهة و من ذات الجاني, وحيرة عظيمة تتملكهم حتى في الموت الشرق شرق والغرب غرب ,وان تساوى في المقدمات يتفارق في النتائج وفي مستوى التعاطف والمشاعر التي يسمونها إنسانية .ألوف مؤلفة منهم قضوا دون أن يثير ذلك قلق بان كي مون رغم أن القلق هو مهمته الوحيدة في هذا العالم .
بالتأكيد لم تكن ليلة سعيدة لضحايا الإرهاب الشرقيين, غبن وتمييز حتى في الموت !! ولو أن ابن نباته السعدي أدرك عصر العولمة كان أعاد النظر في البيت الشعري
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
التعاطف الغربي واسع النطاق طبيعي ويفهم في سياق مركزية “الإنسان الذهبي” الغربي .
ما أثار فضولي سواء في اليمن أو غيرها من الدول العربية حملة الاستنفار الواسعة في ادانة الجريمة والتعاطف مع الضحايا على جميع المستويات التي امتدت إلى مواقع التواصل الاجتماعي بتضليل الصور الشخصية بالعلم الفرنسي.
القصة ليست في التعاطف فهي جريمة مدانة لا جدال في ذلك إنما وأنت تتابع حالة الاستنفار العالمية والعربية في إدانة الجريمة على مستوى الأفراد والهيئات والمنظمات الرسمية وغير الرسمية الدينية والسياسية والمدنية ,حتى أن هيئة كبار العلماء السعودية أصدرت-مكرهة- أول بيان في عمرها يدين عملية لداعش والقاعدة
حالة الاستنفار وبخع النفس المثير للشفقة بلغ ببعضهم حد تسفيه ذاته ودينه وربه تشعرك وكأنها الجريمة الأولى لداعش في العالم, ويهولك الضمير الأخلاقي والإنساني المرهف الذي نزل في زنبيل من السماء دفعة واحدة ,مع أن الأشلاء تملأ ساحاتنا ومساجدنا وأسواقنا ومدننا ومدارسنا .
حالة الاستنفار هل تعكس وعياً أخلاقياً عالمياً؟ هل تعبر عن صحوة ضمير, هؤلاء الذين أبدوا كل هذا الهلع إنسانيون وأخلاقيون لهذه الدرجة ؟
على سبيل المثال في كل العمليات الإرهابية التي شهدتها صنعاء وغيرها في اليمن كانت بيانات الإدانة التي تصدر عن بعض الجهات ثلاثة أرباعها إدانة للضحية أكثر مما فيها إدانة لداعش ويحملون الجهات المستهدفة وزر العمليات الإرهابية أكثر مما يحملونه مرتكبي الجريمة .
إذا كانت دوافع أخلاقية وإنسانية صرفة هي المحرك أين هي من التفجيرات التي شهدتها الضاحية الجنوبية في بيروت ؟ ورغم الفاصل الزمني الذي لا يكاد يذكر لم تشكل حافزا يحرك حالة استنفار شاملة كتلك التي حصلت مع ضحايا باريس .
بالنسبة للغرب الرأسمالي المسألة لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالمفاهيم الإنسانية التي أصبحت بمثابة دعابة سمجة على لسان دول المركز الرأسمالي وإلا لكنا رأينا لها أثرا على ما تقترفه طائرات مخبول الرياض في اليمن من أعمال وحشية وهمجية تخلو من أي غرض عسكري أو سياسي سوى العقاب والإذلال .
التناقض الصارخ في التعامل مع القضايا الإنسانية وازدواجية المعايير الأخلاقية له علاقة بنظرة الثقافة الامبريالية الغريبة الفوقية للآخر غير الغربي كشعوب دونية أقل قدرا وذات حقوق وقيم أخلاقية ومطالب أقل وأدنى على حد المفكر والفيلسوف ادوارد سعيد وبالصورة النمطية التي رسمها الاستشراق عن إنسان الشرق البهيمي والهمجي والمتخلف وهي صورة نمطية لا زالت مترسخة بعمق في وعي معظم الأوروبيين ذات جذر ديني أساسها في الصورة التي رسمتها الكنيسة في القرون الوسطى عن الإسلام والمسلين ولا زال النموذج العلماني قاصرا عن استيعاب الوجود الإسلامي كما هو الحال في فرنسا.
هذه النمطية السردية وفقا لإدوارد سعيد تهدف إلى إلحاق الهزيمة بالآخر معنويا ونفسيا واغتيال شخصيته الأخلاقية .
أذكر تصريحاً لمسؤول غربي أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة 2008م قال فيه انه من غير الأخلاقي مساواة الضحايا الإسرائيليين بالضحايا الفلسطينيين” فلا يجوز مساواة “الإنسان الذهبي ” بإنسان الشرق المصنوع من طين وماء.
المفارقة أن فريقاً واسعاً من النخب العربية السياسية والثقافية بل وحتى الدينية يتماهى بوعي أو بدون وعي مع أسطورة إنسان الغرب الذهبي المتميز إنسانيا وأخلاقيا عن إنسان الشرق العربي المصنوع من طين وماء
والاستنفار الذي رأيناه لا يعبر عن فائض في الوعي الأخلاقي بقدر ما يعكس حالة نفسية وثقافية يمكن تفسيرها إلى ما يسميه المفكر الماركسي غرامشي “الهيمنة الثقافية” للغرب الرأسمالي .
ومفهوم الهيمنة عند غرامشي مغاير لمفهوم السيطرة, فالهيمنة لا تنبني على القوة والمال والسلطة, وأدوات القمع و الإكراه ، بل على عامل القبول الذي تكونه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس,الهيمنة عملية تطويع الوعي بوسائط ثقافية وميكانزمات الجذب الذاتية للقوة المهيمنة تمكنها من إعادة تشكيل وصياغة الأذواق والأخلاق والعادات والمبادئ الدينية والسياسية،
وكل العلاقات الاجتماعية، خصوصًا في ملامحها الثقافية والأخلاقية
وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى عناصر الجذب هذه بقوله ” أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
وهو ما حدث مع الثقافة الأوروبية التي تمكنت ليس فقط من حكم الشرق فقط” بل حتى من إعادة إنتاجه سياسياً ، اجتماعياً ، عسكرياً ، ايديولوجياً ، علمياً وفنياً وأخلاقيا “.
والصورة عن الذات التي تكونت خلال فترة الاستعمار وما بعدها وسيطرت على وعي النخبة العربية هي صورة الذات الماغوطية التي يعرفها الشاعر السوري محمد الماغوط في قصيدة “النخاس”
الاسم: حشرة
اللون: أصفر من الرعب
الجبين: في الوحل
مكان الإقامة: المقبرة أو سجلات الإحصاء
المهنة: نخاس
وهي صورة تستبطن مشاعر الهوان والتفاهة وانحطاط القيمة.
مشاعر الدونية أمام السوبرمان الغربي أو “عقدة الخواجة” التي تتلبس هذه النخب لا تقتصر على المجالات السياسية والفكرية و العلمية والتقنية بل تمد للأخلاق والإقرار اللاشعوري بتفوق القيمة الإنسانية للسوبرمان الغربي و تفاوت درجة البشر على الرسم البياني لإنسانية الإنسان بحسب الجغرافيا المتقدمة والمتخلفة فهناك إنسان درجة أولى وإنسان درجة ثانية وهناك الذهبي و الفضي والبرونزي والنحاسي والترابي .
aalejri@gmail.com