شكّل اختراع المطبعة ثورة كبيرة في سياقه لا تقلّ آثارها عن الثورة الرقمية التي يعيشها العالم اليوم. وإذا كانت قد صدرت كتب عديدة عن سيرة حياة مخترع المطبعة »يوهان غوتنبرغ« وعن »الثورة« التي أحدثتها على صعيد الحضارة الأوروبية والعالمية، فإن »ريشار ابيل« الأخصائي بعالم النشر يكرس كتابه »ثورة غوتنبرغ« لتقديم تاريخ كامل لما يسميه »الثقافة المطبوعة«.
يقوم »ريشار ابيل« بتحليل السياق التاريخي الذي عرفه سياق اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر، وتحليل الآثار الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ترتبت على ذلك. وهو يركز تحليلاته بشكل خاص على المجال الثقافي حيث لا يتردد في القول بأن »ثورة المطبعة كانت لها آثار ثقافية راديكالية« على أوروبا والعالم.
وهو يعود إلى العصور الوسطى كي يشير إلى أن الكتاب بصيغته الأولية على جلود الحيوانات التي تطورت فيما بعد إلى الشكل الحاضر لم تظهر سوى في القرنين التاسع والعاشر حيث حلّت محل الكتابة على »لفائف ورق البردي«. لم يكن ذلك بمثابة تغيير في الشكل فقط، ولكن أيضا في »طريقة تنظيم المعرفة« وفي »الوضع الجسدي للقارئ«.
وظل الكتاب في أوروبا حتى عام 1450ممنسوخاً باليد، خاصة بواسطة الرهبان في الكنائس الذين كانوا يقومون بجمع النصوص. وكان إنجاز كل كتاب يتطلب مئات ساعات العمل. بالتوازي كانت الغالبية العظمى من الكتب المنسوخة ذات طابع كنسي، وجميعها تقريباً كانت باللغة اللاتينية، لغة الكنيسة. لكن اعتباراً من القرن الثالث عشر أخذت فئات قليلة بتعلّم، خاصة بين رجال القانون والأطباء. لكن تلك الظاهرة بقيت هامشية جداً.
وفي عام 1450 اخترع يوهان غوتنبرغ المطبعة. عنى ذلك الانتقال من الكتاب »المنسوخ« إلى الكتاب »المطبوع«، وكان ذلك أيضاً بمثابة الإعلان عن الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة. باختصار كانت فترة »تحولات كبرى في العديد من الميادين«، كما يشرح مؤلف هذا الكتاب. وفي عصر النهضة الأوروبي برز في إيطاليا أولا ثم في فرنسا تيار فكري وفني دعا للعودة إلى قراءة النصوص الكلاسيكية القديمة من لاتينية ويونانية التي أصبحت متوفرة بأعداد كبيرة بفضل المطبعة.
ثم أسهم اكتشاف أميركا »العالم الجديد« في عام 1492م على السفر وعلى »تسويق« الكتاب وبالتالي إلى زيادة انتشار المطابع والكتب المطبوعة. ولم يكن ذهب أميركا وفضتها بعيدين عن ازدهار كل أنواع التجارة في القارة الأوروبية »القديمة«.
وعلى قاعدة الازدهار الاقتصادي والتجاري ازدهرت في أوروبا أيضاً طبقة اجتماعية جديدة تمثّلت في البورجوازية »الثرية والمثقفة« ما وجد ترجمته في وجود قارئين جدد. وازدادت الحاجة إلى الكتب وبالتالي انتشار الكتاب المطبوع. بهذا المعنى كان القارئ وراء صناعة الكتاب وليس الكتاب وراء صناعة القارئ. من الأفكار التي تتردد في تحليلات هذا الكتاب التأكيد بطرق مختلفة أن اختراع المطبعة سمح لشرائح كثيرة جديدة ولوج عالم القراءة، وبالتالي انتشار أكبر للأفكار ولمظاهر الاحتجاج. من هنا برز تدريجياً حرص السلطات العامة على فرض رقابة صارمة على المطابع باعتبارها تمثل خطراً على السلطة السياسية. من هنا أيضاً انتشرت »المطابع السرية« كإحدى النتائج »السياسية« المترتبة على »الثورة« التي قام بها »يوهان غوتنبرغ« في عالم الطباعة والنشر.
Prev Post
Next Post