محمد الغربي عمران
في مجموعته القصصية الأخيرة “اللمسات”2015م أعتمد الأديب المتجدد سمير الفيل على اللا مفارقة.. على عكس أسلوبه في نصوصه القصصية السابقة.. وفوق ذلك يفاجئ المتلقي بإنهاء نصوصه بينما تكون الأحداث في ذروتها. حين نصل آخر سطر من النص ، ولا نزال نتمنى لو أن الكاتب أستمر في ذلك الحكي السلس والشيق. معتمدا في أكثر نصوصه على أسلوب المقاطع الحياتية .. أي أن يسرد لنا أحداثا يعيشها أكثر الناس في صراعهم مع الحياة.. لنكتشف أن المتعة ليست في نهاية نفترض حدوثها.. بل هي في متعة السرد الذي يجيده باقتدار كاتبنا الفيل.
المجموعة قُسمت إلى ثلاث مجموعات داخلية .. كما يلي : “اللمسات” بين سنتي 2010م وسنة 2012م وتشمل 26 نصاً. والقسم الثاني “من طرف العين” أنجز في النصف الأول من سنة 2014م ويشمل خمسة نصوص. والجزء الثالث “الشارع التجاري” 11 نص كتبت في النصف الأخير من عام 2014م.
ولا يعرف جدوى تقسيم المجموعة زمنيا حيث كان يفترض أن تتميز نصوص كل قسم فنيا أو موضوعيا عن الأقسام الأخرى .. لكنا لا نلحظ أي تباين أو اختلاف .. ولو ألغينا تلك التواريخ لوجدنا نفس الانسجام بين نصوص المجموعة كاملة . فاللغة الجزلة المتدفق هي اللغة.. وتلك النهايات المبتورة هي السائدة والمتبعة في جل تلك النصوص عدى القليل منها.
وتلك النهايات المبتورة تضع المتلقي في موضع المتأمل لسير أحداث تلك النصوص.. ومصائر شخصياتها .. ومن ناحية أخرى يرغم الكاتب بذلك البتر القارئ على تخيل نهاية يراها مناسبة لما وصلت إليها أحداث القصة. وقد يتشظى أكثر من سؤال حول دوافع بعض الشخصيات وما قامت به من أعمال.. حين يضعها الكاتب أمام مفترق طرق. حين يستخدم تقنية أللا نهاية لجميع نصوصه .. وبذلك يحتدم حوار بين الكاتب وقارئه أثناء قراءة النصوص.
النص يمثل الكاتب أما ذهنية القارئ.. إذا عدم إيراد نهايات ترضي القارئ .. وعدم استخدام المفارقات مع النهيات وليس عجزا من كاتب له هذه التجربة الطويلة مع الكتابة في الوصل بالمتلقي إلى نهاية ترضيه.. لكنها إرادة أن يقدم لنا تجربة جديدة ، لا تمثل نهايات الباب المفتوح التقليدية ، ولكنه أختار تلك النهايات التي يجد القارئ نفساً ليس مجرد متلقي بل شريك في صياغات ذهنية .
إذا الفيل يعتمد في تلك النصوص على قدرته المشوقة في نسج أحداث ورسم الشخصيات وصياغة ذلك في نص بلغة مشوقة على طريقة “ليس المهم وصول القمة بل الأهم خطوات السير إليها” ، فهل أراد الكاتب بنهاياته تلك التجريب؟ وهل أراد إشراك القارئ بعد وضعه أمام مفترق طرق ليتخيل نهايات محتملة؟ خاصة والفيل صاحب تجربة لا بأس بها في مجال الإبداع السردي.. فله أكثر من عشرين إصداراً توزعت بين السرد والشعر والنقد وأدب الطفل.
إذا الكاتب يحاول التمرد على القوالب المستهلكة.. في محاولة للإسهام بتطوير النص القصصي.. متجاوزا تلك البنى التقليدية.. إلى تقديم نص يعتمد على اللغة المكثفة والمشوقة في الأساس.. متجاوزا لحظات التنوير.. ثم الوصول بالقارئ إلى فضاء أو فراغ يشارك ذهنيا بما يراه لإتمام النص المكتوب.
وما يضيف إن أسلوب الكاتب مشوق من أول كلمات النص.. وذلك ما يجعلنا نرى بأن الفيل يقدم النص المقطعي .. حيث يشعر القارئ أثناء قراءة النص أنه يسير على حبل معلق يتأرجح به.. تلك الأرجحة ناتجة عن اضطراب الأحداث وردود أفعال شخصيات النص إزاء ما يعتمل حوله من الآخر ومن ضغوط الحياة .. ولذلك تتكاثر الاستنتاجات والأحكام في ذهن القارئ حتى نهاية النص الذي عادة ما يفضي سياقيا إلى اللا شيء ، تاركا للقارئ تتمة ذلك النص الذي يبدو مبتورا .
ولهذا يظل القارئ من نص إلى آخر خوف الجزم باحتمال ما أو اليقين بأن الأحداث ستنتهي بكذا. ليكتشف في نهاية الأمر بأنه الكاتب اجتزاء مقطعا من مقاطع حياة فرد أو أفراد .. مشهد من حياة شخص ما أو مجموعة ما.. وبأسلوب لغوي ساحر.
الكاتب لا يدع الكتابة تذهب به وهو يكتب.. بل يتعمد بعد أن تصور ما سيكتب الغوص في تصرفات وتعاملات المجتمع تاركا للمتلقي الحكم على مواقف شخصيات قصصه.
ليقف القارئ بعد كل نص مبتسما ، كمن شاهد خناقة خلال عودته من العمل .. أو شارك في خلاف بين أفراد أسرة يعيش بالقرب منها .. ليحكم بأن الشخصية على حق والأخر مستهبل وعبيط.. أو أن يتعاطف مع شخصية ضد أخرى.. وقد يضحك ساخرا من إحداها. ففي نص بعنوان “الشحاذ” يطلب صاحب الدكان من متسول أن يجمع زبالة من على الرصيف المقابل.. ويذهب بها بعيد مقابل أجر.. فيرد عليه المتسول بأنفة ” ليست مهنتي” لكن صاحب الدكان يدخل معه في جدل ناهرا له ” أنت ترفس النعمة ” فيذهب المتسول مبتعدا عنه في تذمر .. وحين يمد يده لصاحب دكان آخر يقول “حاجة لله وبدون شروط يا خلق” وهكذا في عدة نصوص.. يناقش الكاتب اختلاف المفاهيم بين الناس حول موضوع معين.. وتباين الآراء.. لينشب خلاف حول تلك المواضيع وعادة ما تكون اجتماعية.. أو سياسية .. وترتفع الأصوات وتمتد الأيادي لتتطور الأمور إلى مشادات وعراك. يقف المتلقي متأملا وحائرا من على حق ومن على باطل.
الكاتب يجيد سرد الأحداث وتداخل العلاقات بين أفراد المجتمع.. كما يبرز ردود أفعال الشخصيات حول حدث أو أحداث. ومن نص لآخر نجد تلك المقاطع الحياتية تغطي جزءاً من مجتمع كل شخصياته من عوام الشعب .ما يشعر القارئ بأنه ترى ما يدور من أعالي المكان .. ليقهقه على خيبات بعض الشخصيات.. وقلة حيلة بعض آخر.. وذلك الصراع المستفحل حول الحياة.. وتلك المعارك المجتمعية .. كما لو كان الكاتب قد وضع المتلقي حاكما أو قاضيا ليحكم حول الأشخاص من على حق ومن على باطل.. ليجد أن البسمة تتسرب إلى محياه بعد إتمام كل نص.. وأحيانا يقهقه وهو يراهم يتصارعون.
في نص بعنوان “أشغال” نجد المعلم فريد يقتل شريكه المتولي.. لا لشيء إلا لأنه شك بخيانة زوجته هي والمتولي.. وذلك نتيجة عجزه المزمن. ليحكم عليه بالشنق. لكنه اليقين يأتيه ببراءة المتولي بعد حكم المؤبد مع الأشغال الشاقة.. لكن الأمر انتهى . وفي نص آخر بعنوان “تربص” لحظة أن ضبطت زوجة الترزي زوجها مع زبونة في غرفة القياس.. يساعدها على تجريب ما أشترته عارية.. لتصرخ الزوجة “ضبطتك ياسطى مع المحروسة.. أوعى تقولي دي بروفة ” وهكذا هي النصوص التي صُيغت بأسلوب ساخر: أشياء.. الجنزير.. كيس الفحم.. السطح.
وهكذا نجد محاولة الكاتب وقد نجح في إنجاز نصوص بأسلوب مقاطع حياتية لأفراد المجتمع.. شبيهة بالأشعة المقطعية لجزء من الجسم البشري.. وما يزيد النص تشويقاً ذلك الأسلوب الباذخ من لغة ثرية .. وتراكيب لجمل قصيرة.. ينسجها بصيغ مترابطة ومشوقة حد الإدهاش. بحيث يصل بالقارئ إلى الإحساس بأصوات الأفراد بل وبروز ملامحهم وهيئاتهم .. بل أنه يراهم يتحركون ويتناقشون ويتعاركون .. ويشتركون في خلافات حادة.. هي مقاطع كاملة من حياة صاخبة.. يميل الكاتب في نصوصه منتصرا لحياة الغلابة .. يختار أفكاره وشخصياته من باعة السمك والخضار والفحم والعربجية وصغار الموظفين .. والعوانس وباعة الأرصفة …. الخ وهكذا تجد تلك النصوص تملأ حواسك صخبا وروائح وكأنك تقف في أول شارع من حي يكتظ لترى ما يعتمل بين سكانه.
إذا نص الفيل الجديد لا يعتمد على النهايات التي تأتي بالتنوير.. بل بما تبذر في النفس من أسئلة. كما يعتمد على المقطعية التي تتالى فيها المشهدية. إضافة إلى ما يمكن أن نسميه بأرجحة تفكير القارئ بين أكثر من احتمال .. وأكثر من نتيجة لتطور الأحداث وما يعتمل في شخصيات النص ويتفاعل.
نصوص لا تنقصها المفارقة .. أو قد تجاوزها الفيل.. بنصه المختلف ..وإن بدى وكأنه مقاربا للنص القديم.. إلا أنه مختلف بعض الشيء.