لحظة يازمن…مقتطفات: نجيب محفوظ
كان يضمر للعباسية إعجابا كبيرا ويكن لها حبا وإجلالا يبلغان حد التقديس أما الإعجاب فمرده إلى نظافتها وهندستها والهدوء المريح المخيم على ربوعها وكل أولئك سمات لا يعرفها.
حبه العتيق “الزياط” وأما الحب والإجلال فمرجعهما إلى أنها وطن قلبه ومنزل وحي حبه ومثوى قصر معبودته منذ أعوام أربعة وهو يتردد عليها بقلب مرهف وحواس مشحوذة حتى حفظها عن ظهر قلب فحيثما مد بصره ارتد إليه بصورة مألوفة كأنها وجه صديق قديم وجميع معالمها ومناظرها ودروبها وعدد من أهلها قد اقترن في ذهنه بأفكار وعواطف وأخيلة أمست ـ في جملتها ـ جوهر حياته ومعقد أحلامه فحيثما ولى وجهه فثمة مناد يدعو القلب للسجود.
من رواية “قصر الشوق”
وكانت عيناه لم ترياها منذ خاصمته في الكشك ولكن الحياة لم تكن تتيسر له إلا أن يحج كل أصيل إلى العباسية فيطوف بالقصر من بعيد في مثابرة لا تعرف اليأس معللا نفسه بالأحلام قانعا إلى حين باجتلاء المقام واجترار الذكريات.. وكان الألم في الأيام الأولى للفراق كالمجنون في هذيانه ووسوسته ولو طال به الأمد كذلك لقضي عليه ولكنه نجا من تلك المرحلة الخطيرة بفضل اليائس الذي وطن النفس عليه منذ قديم فانسرب الألم إلى مستقر له في الأعماق يؤدي فيه وظيفته من غير أن يعطل سائر الوظائف الحيوية كأنه عضو أصيل في الجسم أو قوة جوهرية في الروح أو أنه كان مرضا حادا هائجا ثم أزمن فزايلته الأعراض العنيفة واستقر غير أنه لم يتعز وكيف يتعزى الحب وهو أجل ما كان شفته الحياة¿ ولكنه كان يؤمن إيمانا عميقا بخلود الحب فكان عليه أن يصير كما ينبغي لإنسان مقدور عليه بأن يصاحب داء إلى آخر العمر.
من “رواية قصر الشوق”