إشكالية الأجناس الأدبية (2-2)

رياض حمادي


يعد تحديد النوع الأدبي على غلاف الكتاب بمثابة العقد الصريح مع القارئ, لكن بعض الكتاب يخالفون بنود هذا العقد بالسكوت عن تحديد النوع, إذا كان النص متداخل الأجناس, أو عندما يشعر القارئ أن ما يقرأه ينتمي لنوع آخر مخالف لما هو منصوص على الغلاف. هنا يمكن أن نطرح سؤالا: هل تحديد النوع على الغلاف اقتراح أم طموح قد يوف به المتن وقد يحوله إلى خداع ¿!
تحديد النوع الأدبي بشكل جلي على غلاف الكتاب أو بشكل ضمني في المتن – خصوصا التعيين “سيرة ذاتية” أو “سيرة روائية” أو “مذكرات” – مهم إذا أراد الكاتب لكتابه أن يكون وثيقة تاريخية. وهو أمر ثانوي أو هامشي, ليس فقط لأن النوع متغير ولا يوجد نوع ثابت, كما قال (يوري تينيانوف), بل لأن هناك مسألة أهم,تقلل من أهمية النوع,هي علاقة النص بالقارئ من خلال فعل القراءة التي يعرöفها (ستانلي فيش) بأنها “ليست مسألة اكتشاف لما يعنيه النص وإنما سيرورة اختبار لما تفعله بنا”.
تحديد الناقد لنص بأنه سيرة ذاتية, بالرجوع إلى تعريف وشروط السيرة الذاتية, أمر ليس باليسير لصعوبة تعريف السيرة الذاتية وتعدد واختلاف أنواعها. نحيل هنا إلى التجربة التي خاضها جورج ماي “والتي حاول من خلالها وضع تحديد للسيرة الذاتية انطلاقا من متن مكون من مائة نص … فمن المفروض فيمن يحتك بالسيرة الذاتية ويدرسها أن يبدأ بتحليل متن ما بدل الاقتراح المتسرع للتعريف.”(1). هذا فضلا عن أن لوجون أعاد النظر جذريا في ميثاقه للسيرة الذاتية معتبرا افتراض ديمومة الأنواع واستقلالها وهما, وأن السيرة الذاتية عمل مستحيل دون أن يعني ذلك إمكانية وجودها.
من المهم الإشارة هنا إلى وجود تيار نقدي متنامي منذ بداية القرن العشرين يهدف إلى “تحطيم نظرية الأنواع الأدبية, وتأسيس بنية النص المتفرد, مرددين أنه لا توجد أنواع أدبية مستقرة, بل توجد نصوص أدبية متجددة, وأن بنية النوع الأدبي لم تعرف الاستقرار في أي عصر من العصور, وإنما كانت تخترق دائما بنصوص طليعية غير مألوفة إذا ما قورنت بالنصوص السابقة عليه” (2).
يقول رينيه ويليك: “لا تحتل نظرية الأنواع الأدبية مكان الصدارة في الدراسات الأدبية في هذا القرن (العشرين), (لأن) التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا, فالحدود بينها تعبر باستمرار, فالأنواع تخلط أو تمزج, والقديم منها يترك أو يحور, وتخلق أنواع جديدة إلى حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك”(3).
وقد شن الناقد الإيطالي بنديتوكروتشة هجوما على المفهوم لم تقم له بعده قائمة, وذكر دليلين على بطلان نظرية الأنواع الأدبية أهمهما: “أن الأنواع الأدبية لم تكن قواعد ثابتة على الدوام, وإنما تطورت بمرور الزمن, وتجدد النصوص وظهور العبقريات الأدبية, وذلك يهدم مبدأ استقرار بنية النوع الأدبي”(4).
في هذا السياق تقول إليزابيث بروس إن”كل محاولة لتحديد نوع أدبي ما بناء على مقاييس تكوينية أو مرتبطة بالأسلوب يكون مصيرها الفشل”(5). لكن هذه الحالة لا تنطبق على الكتاب الذي بين أيدينا حيث يمكن أن نخلص إلى أنه كتاب أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى المذكرات نظرا لأنه لا يوجد نموذج وحيد للسيرة الذاتية, وكون الكتاب التزم بأغلب خصائص السيرة الذاتية على نحو ضمني, وينسجم مع تعريف آخر للسيرة الذاتية باعتبارها “كل نص يبدو أن مؤلفه يعبر فيه عن حياته وإحساساته, مهما كانت طبيعة العقد المقترح من طرف المؤلف. وهذا المعنى هو الذي قصده فابيرو في “المعجم الكوني للأدب” (1876) الذي يقول فيه بأن السيرة الذاتية عمل أدبي, رواية, سواء كان قصيدة أم مقالة فلسفية, إلخ … قصد فيها بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره أو رسم احساساته.”(6).
هي سيرة يبدو أنها غير مكتملة. فلم يذكر المؤلف شيئا عن حياته في أمريكا ولا في بريطانيا وذكر القليل جدا من حياته في الهند واكتفى بذكر الحرب في بيروت. وهكذا نجد أن كثير من جوانب حياة مراهقته وشبابه غير مضمنة في هذه السيرة وربما يرجع السبب إلى أن أدب السيرة الذاتية, بمعنى البوح, لا يمكن أن يوجد في ثقافة محافظة ومتزمتة وفي مجتمعات “لا تعرف كيف تعبر عن نفسها إلا من وراء حجاب, فالحقيقة قد تساوي الفضيحة”(7).
ولعل السبب الأهم مرتبط بالفرق بين السيرة الذاتية والمذكرات و الاعترافات. فالسيرة الذاتية نوع قابل لاحتضان عدة نصوص كما أنها تترك مكانا واسعا للاستيهام ولا تلتزم بالدقة حول الأحداث كما هو الشأن في المذكرات, أو بقول الحقيقة المطلقة كما هو الشأن في الاعترافات(8).
تجلى في هذا الكتاب الهم الوطني وصوت الضمير الحي اليقظ والصادق وسط غابة من الفساد والمفسدين.اتبع فيه المؤلف الأسلوب النقدي الذي لم يخلو من روح الدعابة. وهو كتاب جدير بالقراءة من قبل التربويين والاستفادة مما جاء فيه من مشكلات وحلول خصوصا

قد يعجبك ايضا