أسطول الصمود.. ملحمة البحر ونداء الإنسانية

د. محمد المدهون

 

من قلب العتمة التي غطّت وجه الأرض، ومن بين أمواج البحر التي عرفت سرّ الأحرار، أبحر أسطول الصمود؛ لا كسفنٍ عادية، بل كقناديل من نور، تحمل بين أشرعتها أنفاس الشهداء، ودموع الجياع، وأحلام الأسرى، وصوت الشعوب التوّاقة للحرية. سبعون سفينة من أربعٍ وأربعين دولة، وخمسمائة متضامن جاؤوا ليقولوا للعالم: غزة ليست وحدها.

البحر لم يعد مجرد ماء، بل صار ميدانًا للمعركة، وساحةً للضمير الإنساني. الكاميرات، الأقلام، الهتافات، والوسوم (#أسطول_الصمود #GlobalSumudFlotilla) تحوّلت إلى رماح تشقّ جدار الحصار. وكل موجة ترتفع كانت تهتف: “افتحوا لغزة نوافذ السماء… أو اتركوا البحر لنا!”

في زمن انطفأت فيه مشاعل الضمير، وتحوّل القانون الدولي إلى ورق محروق، أبحرت سفن الحرية من أقصى غرب المتوسط، لا تحمل المدافع ولا الغواصات، بل تحمل الخبز، الدواء، والصرخة الأخيرة للإنسانية. تمخر البحر بوجه الاحتلال، كأنها تمخر صدر التاريخ، تعلن أن الحرية لا تُستجدى، بل تُنتزع انتزاعًا.

وعلى حين غرة، كالذئاب التي تقتنص في الظلام، انقضّت قوات الاحتلال على الأسطول، اعتقلت البرلمانيين، الأطباء، الصحفيين، والأحرار، في جريمة تعسفية تُدينها الفطرة قبل النصوص، وتفضح زيف ديمقراطيتهم المزعومة. لكن الحقيقة يا صديقي لا تُعتقل، والحرية لا تُغرق، والضمير لا يُنفى. فالسفن ليست خشبًا ومسامير، بل راية خفّاقة تكتب للعالم: غزة تنادي… فمن يجيب؟

أيها البحر… يا صدر الأرض الأزرق… احتضن قوارب الصمود، فكل موجةٍ منك تعمّد ميلادًا جديدًا للحرية. وإن سقطت سفينة في لجّتك، ستقوم ألف سفينة. وإن غُيّب مناضل في غياهب الزنازين، سيخرج ألف مناضل. هذه ملحمة لا تنكسر، وهذه صرخة لا تُطفأ.

لقد سقطت أسطورة “واحة الديمقراطية” كما تسقط أبراج غزة تحت القصف، وتهاوت أوراق “القانون الدولي” كما تتهاوى جدران المنازل المدمرة. لم يبقَ إلا الحقيقة الصارخة: لا سيادة دون ميناء، ولا حرية دون بحر مفتوح. البحر ليس حكرًا على الاحتلال، وغزة لم تُخلَق لتُحاصَر.

اليوم، أسطول الصمود ليس وحده؛ خلفه أرواح الشهداء، حكايات الأسرى، آهات الجرحى، وأحلام الشتات. إنه بداية الحكاية، لا نهايتها؛ إنه الموج الأول، والشقّ في جدار الصمت، والبشارة بأن هذا الليل مهما طال، فالفجر قادم، قريب جدًا.

وإذ يكتب الأسطول على صفحة الماء ملحمته الأخيرة، يردد:

“الموت في عرض البحر أهون من حياة تُعدَم كل لحظة داخل قفص المحرقة.”

فلتشهد الدنيا كلها أن غزة ستبقى، وأن البحر سيفتح أبوابه لها، شاء من شاء وأبى من أبى، لأن وعد الله غالب.

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

 

* كاتب وسياسي فلسطيني

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا